محمود عبد الرحيم الرجبي: قراءة في ومضات حزينة لكاتب حزين !!
محمود عبد الرحيم الرجبي
الدكتور جمال الجزيري قاص وشاعر وباحث وناقد، شغل نفسه بعالم الكتابة منذ زمن بعيد، ومع كلّ هذا الانشغال، وتسرب الوقت كالهواء من بين أصابعه، إلا أنه يجد الوقت دائماً، كي يمارس لذة الحزن، ويأخذنا معه في رحلة لا تنتهي في عالم من الحزن الذي أصبح كالوشم على قلوبنا !!
يتقن الدكتور جمال الجزيري فن التظاهر بالابتسام والفرح، عند ممارسته لفن الانصهار الكتابي، فألفاظه فرحة بطبعها، ومعانيه ترتدي عباءة مطرزة بالسعادة، ولكن عندما تلتصق ألفاظه بمعانيه فإنها ترسل حزناً صافياً إلى عيوننا وقلوبنا!!
قبل البدء في تذوق الحزن اللذيذ، في بعض ومضات الدكتور جمال الجزيري، وربطهم بمراحل الحزن المختلفة وتطورها، أحب أن أبين أن ومضات الدكتور جمال الجزيري مرت بكافة مراحل الحزن الخمس على اختلافها، وفي مواقع مختلفة وحالات نفسية وذهنية مختلفة في المكان والزمان الخاص الذي خلق فكرة الومضة، وكأنه يتقلب حسب الحاجة الذهنية والاجتماعية والإنسانية، لتطورات القلق والكآبة والشعور باللاجدوى، في داخل الإنسان المعاصر، فهو يطرح في ومضاته كافة الأسئلة الوجودية الممكنة، لذا لا غرابة أن تلتقط ومضاته مشاهد مختلفة سريعة ولكن عميقة التأثير فينا، وتؤرخ وتؤطر وتحدد بها الكثير من حالات آلامنا وأوجاعنا المتكررة التي تراوح مكانها، ولكنها في نفس الوقت تتحرك بسرعة لا متناهية، عبر مشاعرنا المتناقضة وأحاسيسنا المتنافرة مع بعضها!!
تفسر إيفا نيكولافيتش في خاطرتها (فخ قراءة – لماذا نفرط في كتابة الحزن؟) سبب تشبع نصوص الكتاب بحزن لا ينتهي، وكأن الكتابة أصبحت مصدرا للكآبة بدلا من أن تكون لغة تواصل وانفتاح ذهني على العالم، فتقول:( للمستائين لماذا نفرط في الكتابة عن الحزن، ولا نذكر الفرح في نصوصنا أبدا إلا قليل. لسنا أنانيين كما ندعي حين نفسر هذا بأننا نخشى أن تنفد سعادتنا إن كتبنا عنها. أبدا هذا كلام أدبي ظالم فقط لنتجاوز به الأشياء التي نعجز عن تفسيرها. ردات فعل الفرح واضحة يمكن التعبير عنها بالأفعال، الضحك، الرقص، الاحتضان، الهدايا، الزيارات، الأحاديث الطويلة، وأفعال أخرى كثيرة، ليس من بينها الكتابة لأن الفرح يكاد يكون محسوس، وطبيعي جدا أن تكون سعيدا وفرحا، فلا يخلق فرحك أسئلة طويلة عن سببه كالحزن المباغت الذي هو محفز الكتابة الأول. وإن فكر أحدهم أن يترجم سعادته بالكتابة سيكتفي بأول جملتين ثم يعجز، لا يجد ما يمكن أن يقوله لأن هناك ما يمكن أن “يفعله” ويكون أصدق في التعبير. لأن الفرح يعاش كله بالصخب وإلا لمر باردا بلا طعم، بينما الحزن تظل بعض بقاياه – وإن أشبعه صاحبه بكاء ونحيب – تعاش في الخفاء، الحزن طويل، عميق، وإن انتهى فبواعثه كثيرة جدا ومن المحال التخلص منها، كما قلت في الأعلى، نخلة، وربما ملعقة. قد يكون صرير الباب، أو حتى حذاء يرتبط بذكرى آفلة تجدد أحزان قديمة، هنا أنت بحاجة لأن تكتب، وستجد نفسك – كل مرة تمر فيها بباعث – مضطرا لأن تكتب بالتأكيد عن هذه الأحزان القديمة، عوضا عن أن المجال في اللغة أوسع وأبسط عند الكتابة عن الحزن. يكفي أحدهم أن يكتب: “أنا سعيد” فنكاد نراه يقفز فرحا فقط من هذه الكلمة لنفرح معه ونباركه، بينما الحزين يظل يكتب، ويكتب، ويكتب ويبقى يلازمه شعور بأن لا أحد ولا حتى هو نفسه استطاع أن يقدر حجم هذا الحزن والألم الذي يشعر به من خلال ما كتب فيستمر في الكتابة نصا بعد نص بقوالب كثيرة وربما مكررة حسب موهبة الكاتب بالطبع، ويظل الاحساس بما كتب قاصر وناقص. السعادة وقتية، الحزن طويل الأمد لتجدده. نسمة هواء عابرة تحمل رائحة طعام كانت تطبخه أمك المتوفاة كفيلة بأن تجدد شعورك بالفقد وكأنك للتو عرفت بخبر وفاتها)
قامت (إليزابيث كيوبلر روس) بعرض تحليلي لنموذج كيوبلر روس المشهور بـمراحل الحزن الخمس في كتابها” عن الموت والوفاة”، وتصف الطريقة التي يتعامل بها الأفراد مع الحزن الناتج عن مصائب؛ كأن يكون الشخص قد شُخص بمرض خطير، أو عانى من خسارة كارثية، أو فقدَ شخصـًا عزيزًا مما أدى إلى صدمة نفسية. وقد وجه الكتاب الوعي العام إلى أهمية التعامل بحساسية أكثر مع الافراد في هذه الاوقات.
إن المصائب متنوعة، وتأخذ أشكالاً مختلفة وأقنعة متغيرة، فإن كانت إليزابيث روس ركزت في شرح مراحل الحزن الخمس، على أساس المصائب النفسية، فإنها تنطلق من واقع محدد للحياة، الذي يحتوي على أشكال أخرى للحزن وعلى أنواع مختلفة من مسبباته، وكذلك يفعل الأدب، إنه انعكاس لنفسية وحالة الكاتب، حين يمارس فعل الكتابة بكل ما فيه من وعي أو عدم وعي غير مقصود، فإن أشياء عديدة تتسرب من روحه ونفسه إلى يديه وحروفه ومعانيه، حتى ولو لم يكن يقصدها، ولكنها بالتأكيد تقصده وتفضحه بكل سهولة!!
جمال الجزيري لا يختلف عن الآخرين إلا بحساسيته الشديدة للحزن، والتي تقطر من كلماته ومعانيه مهما حاول إخفاءها بالمعنى الشامل والنهائي للنص، فحزنه يفضحه في كل مرة يتواصل فيها مع الحياة عبر الورق !!
في هذه الرحلة الحزينة عبر ومضاته، سنستخدم أجنحة الخيال ونسافر عبر حزن ومضاته، ونتوقف عند كل محطة استراحة من مراحل الحزن، التي قد تصبح ألف مرحلة ومرحلة في ذات يوم قريب !!
1- المحطة الأولى: مرحلة الإنكار:
ويكون مجرد مرحلة مقاومة نفسية لواقعية المصيبة لاإراديا للتخفيف الذاتي من الشعور الأولىّ بالصدمة “أنا بخير”، “لا يمكن أن يحدث هذا، ليس لي” وهو مجرد دفاع مؤقت للفرد؛ هذا الشعور عامة يُستبدل بالوعي الشديد بالمواقف والأفراد… ويتخيل الفرد حينها أن المصيبة ما زالت في مرحلة الإنقاذ وان من الوارد استرجاع ما فقد (وفى بعض الأحيان لا يصدق فكرة الفقد في حد ذاتها ويحاول اقناع نفسه بأن الخبر ليس أكيدا، كنوع من إعطاء النفس بعض الأمل في احتمالية النجاة.
جمال الجزيري يمارس في هذه المرحلة الإنكار من أوسع أبوابه غير المغلقة في عينيه، فهو في ومضة (صهد) يستخدم كلمة (إشراق) و(شمس) لوصف المرأة التي لا تمل انتظار عودة ابنها من غربته، كي ينير لها ظلمة الحياة من بعد غيابه عنها، مع أن الراحلين حين يرحلون لا يغادروننا وينتقلون للسكن في قلوبنا، فهي بمجرد تخيل شمس ابنها تحرقها حرارة وجوده في خيالها، ومع ذلك تبقى تنتظر ابناً قد لا يعود، إنها حالة إنكار متكاملة لظروف الحياة القاسية التي تدعونا إلى اليأس مرغمين، ولولا هذا الإنكار لما انتظرت ولما تجسد الأمل في قلبها!!
(صهد)
انتظرت الأم إشراق شمس ابنها من غربته. لفحها الصهد ومازالت تنتظر.
وفي ومضة (قهقهة) يصنع إنكاراً من نوع مختلف، إنه إنكار الادعاء والتجاهل، فيتناسى الشيء كي ينساه، مع أن كلَّ نفسٍ يأخذه من الحياة يذكره به !!
الهموم تهزمه كل لحظة، وهو ينظر إليها ببرود ويبتسم، إن القارئ لن يصدقه أبداً، فالنص يفيض بحزن الانكسار والهزيمة، مما يجعل القارئ يتذكر بعض همومه ويحاول أن يبتسم، ولكنه سيفشل بالتأكيد، وسيضحك بأعلى صوته، لأن شر البلية ما يضحك!!
(قهقهه)
حاولت الهموم أن توفقه أرضا. نظر إليها ببرود ثم ابتسم وأخذ يقهقه ُ.
وفي ومضة (لقاء) إنكار تغلب عليه رائحة الاغتراب النفسي، مع أنه حاول أن يخفيها بألوان المفارقة والدهشة والتكثيف والوحدة العضوية للنص، إلا أن الحزن يحتلّ النص ويستبيحه تماماً دون خوف، إنه نص يفضح اغتراب صاحبه عن نفسه، فيشعر أنه غريب عن هذا الكون، لا يعرف من هو ومن أين أتى؟ وما المصير، وماذا وراء هذا الوجود؟ وإلى أين نذهب، وهذا يدخل في ما أطلق عليه بعض علماء النفس المعاصرين (قلق الوجود)، كما أطلقوا عليه (عصاب اللامعنى)!!
(لقاء)
قال: ” إنني أنا ” قلت: ” بالتأكيد هو” لكننا عندما التقينا تأكدت أنني لم أعرفه يوما.
2- المحطة الثانية: مرحلة الغضب:
وهي المرحلة التي تلي تأكد الوعي النفسي بحقيقة وقوع المصيبة، وانتهاء احتمالية انكارها، أو استبعادها، وهي مرحلة من التذمر “لم أنا؟ هذا ليس عدلاً”، “كيف يحدث هذا لشخص مثلى؟”، “مَن المُلام على ذلك؟”: وما إن يدخل الفرد المرحلة الثانية حتى يدرك أن الانكار لا يمكن أن يستمر؛ بسبب الغضب الذي ينتاب الفرد يصبح من الصعب جداً رعايته لما يكنه من مشاعر ثورة.
يقول توم جيتس :(الغضب هو الشكل المطور والجبان عن الحزن، فمن السهل أن تظهر بشكل الغاضب بدلاً من الظهور بمظهر الحزين!!) ويقول هوراثيوس :(الغضب هو جنون مؤقت!!)
وكذلك يفعل جمال الجزيري، فهو لا يخجل عن الإفصاح عن حزنه وهو في قمة غضبه، كما جاء في ومضة (صورة) وومضة (ركوب)، فهو يُعقْلن غضبه الشديد بإبرة حزنٍ مخدرة شديدة الفعالية، عندما يقف على جهة مضادة من الآخر، وينظر إليه ويتأمل فيما يفصل بينه وبين الآخرين، من مشاعر وذكريات وكرامة جريحة، إنه الغضب المكتوم بأيدي طهارة الحزن المقدس، الذي يخدش جروحه التي اختفت ظاهريا ويوقظ النائمة منها في الذاكرة، إنه الغضب بقالب من الوحدة الاختيارية، التي لا تشبه الانعزال، فهو يريد استرجاع الذكريات الأليمة عن طريق الصور وكأنه يريد أن يلمس ذكرياته أو على الأقل يشعر بألمها مجدداً !!
(صورة)
واقفُ بجهة. واقفةُ بأخرى. وما بيننا أنين ونبضات فرح وكرامةُ جريحة.
(ركوب)
أقلب صوري. علمها يبتهج بيدي. يخفق قلبي. أدمع. يتلعثم لساني.
في ومضة (خريطة الروح) نرى الغضب المشبع بالتحدي، في لحظة حزن قاسية، تجعل المجابهة وحتى الموت وسيلة للخلاص، إنها ثورة الحزن التي تطل برأسها إلى الحياة، من رحم اليأس وخيبات الأمل المتكررة، الحزن يسبب الملل من الخوف، فالخوف أكثر ما يكره الحزن، لأنه يغلق منفد الحزن الوحيد ويفضحنا، الخوف يغلق العينين ويجعلها فارغة إلا من الارتعاش !!
الحزن يجابه الخوف بالغضب، لأن الخوف يؤثر على تفكير الإنسان فيبقى متردداً، لا يستطيع اتخاذ أي قرار، ويعاني في داخله من صراع مرير مع الذات والحياة !!
(خريطة الروح)
حاصرني واقتلني كما تشاء.. بالروح النازفة مني حبر قلم يرسم خريطة وطن ويشكل ملامح البلاد.
3- المحطة الثالثة: مرحلة المساومة:
فقط دعني أعيش لرؤية أطفالي يكبرون.”، “سأفعل أي شيء من أجل أن تعود لي”: المرحلة الثالثة تحتوي على الأمل بأن الفرد يمكنه فعل أي شيء لتأجيل الموت/الفقد، أو استرجاع ما فقد أو التعويض عنه.
جمال الجزيري في هذه المرحلة، يبدو كمن يؤمن بمقولة الشاعر واسيني الأعرج: (يحدث أن ننسى ذاكرتنا، وننغمس في أحزان التفاهات اليومية!!)، ولكنه يرفض أن يساوم إلا بشروطه هو، فحزنه يأبى القهر، ولكنه يرحب بالأمل حتى ولو كان ليس أكثر من خدعة عابرة!!
في ومضته (نكاية) تساومه وتراوده نفسه الأمارة بالسوء، فيدخل في مساومة سريعة في داخله بحثاً عن النفس المطمئنة، فلا يجد سوى النفس اللوامة، فيقرأ المعوذتين ويصلي ركعتين، وينام ويحلم بيوم جديد، إنها مساومة الرضا الداخلي والهدوء الذي يأتي بعد العاصفة !!
(نكاية)
راوده في آخر الليل: “كأنك تدعو حجرا”. قرأ المعوذتين، وتوضأ لركعتين.
في ومضته (ناصح) مساومة من نوع آخر، إنها مساومة الحاجة والشعور بالهزيمة المطلقة، وغض البصر مرغماً عن التناقضات التي تعصرك وتمتصك حتى التلاشي، في أسلوب حياتهم اليومي الذي ترفضه صامتاً، ويشير كل جزء من كرامتك الذبيحة إليه !!
(ناصح)
نصحني بأن أساير الفرص وألون وجهي، واستأذن ليذهب لحلقه عن فلسفة القيم.
في ومضته (ومضة) مساومة الخيال، وابتكار الوهم وشرب كأس الأمل المفتعل، فإن لم تأت الحقيقة إلينا، لا بأس بأن نقسم لأنفسنا أنها كانت قبل قليل تركع أمامنا !!
(ومضه)
نور تجلي لي. قبضت قبضة من أثره ودوَّنتُه بأنفاسي.
4- المحطة الرابعة: مرحلة الاكتئاب:
“سأموت على أي حال، ما الفائدة من أي شيء سأفعله؟”، “لقد رحلت/رحل، لماذا أستمر بعده/عدها؟”: يبدأ الفرد في المرحلة الرابعة في فهم حتمية الموت/الفقد/الظروف القاهرة، ولهذا يصبح المرء أكثر صمتــًا، ويرفض مقابلة الزوار، ويمضي الكثير من الوقت في البكاء، تسمح هذا المرحلة للفرد بقطع نفسه عن الأشياء/الأشخاص المحبوبة له. لا ينصح أن تتم محاولة إبهاج الفرد الذي يمر بهذه الحالة؛ لأنها حالة يجب أن يمر بها ويتعامل معها.
جمال الجزيري يعمل بالحكمة المجهولة النسب :(الحزن ينظر إلى الوراء، والقلق ينظر حوله، والإيمان يتطلع)
(Sorrow looks back, worry looks around, faith looks up)
لذا فهو يحمل نفسية شفافة من زجاج، ولكنه زجاج ضد الكسر، قد لا يكون منيعاً أمام الحسرة، كما في ومضة (حسرة) ولكنه دائماً يضع الأهداف ويعمل من أجلها، قد يصاب بخيبة الأمل، ليس بسبب الفشل، ولكن بسبب تجاوز قطار الحياة والعمر الذي لا يتوقف لأحد، وكأنه يحيا في زمن لم يولد فيه أو أتى مبكراً، وهذا أهم سبب للشعور بالاغتراب والكآبة، وهذا هو بئر الحزن الذي لا ينضب أبداً!!
(حسرة)
وضعت هدفي نصب عيني. حققته كما أردت. اكتشفت أن الطريق فاتتني.
في ومضته (طين) نلمس بعيوننا كآبة من نوع آخر، كآبة تتعلق بفلسفة الوجود نفسه، والبحث عن الذات، مرحلة عشق صامتة للتلاشي والانعزال، مرحلة اعتراف ضمني بفشل التواصل مع الذات والمحيط، في لحظة يأس قاسية، فأفكار وأفعال الآخرين قد لا تؤذينا بمقدار ما تشككنا بأنفسنا وبآرائنا !!
(طين)
نمزج تفاهات الطين ونشكل منها نوراً للبشر. لم يحتمل نورنا. حاول أن يطفئَها بطفحِ فمِه.
في ومضاته (توعد) و(أم المسرح) و(واردها) تُكشِّر الكآبة عن أنيابها ومخالبها الحزينة، ولكنه دفاع عن النفس فقط، وليس بقصد الهجوم أو المباغتة، إنه دفاع اليأس أو التهديد بالمقاومة، فالشعور بالعجز يفتح نافذة الحزن على مصراعيها، لكل طيور الخوف التي تحلم في السكن في اقفاص القلوب الدافئة، لذا تأتي الومضة كشريط سينمائي، أو صورة متحركة تعكس مشاهد متداخلة، يجمع بينها خيط خفي، وإن كانت تبدو بعيدة في الزمن والمكان، إلا إن الحزن هو سيد الموقف فيها، فهو الرائحة !!
(توعد)
قبر وقبر وبينهما قبر. يتساقط المطر. تطرح الأرض رؤوسا متوعده.
(أم المسرح)
خشبة مسرح. إعصار صناعي. تبديل أقنعة. جمهور غارق. إعصار حقيقي. جوقَةٌ مطارَدَة.
(واردها)
أرض قاحلة. غليان. ينابيع .. أرض نابته. سماسرة ماء. غليان.
5- المحطة الخامسة: مرحلة التقبل:
“ما حدث حدث، ويجب أن أكمل الطريق”، “لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن استعد لما سيأتي”: تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام، والتفهم للفقد الذي حدث/القادم. عامة سيفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُتركَ وحيداً، بالإضافة لذلك قد تنعدم لديه مشاعر الألم، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع.
جمال الجزيري هنا ينتقل بين مفهومين لتقبل حالة الحزن، بين ما يقوله آمبروس بيرس: (المصائب نوعان: حظ عاثر يصيبنا وحظ حسن يصيب الآخرين!!) وبين ما يقوله توماس جيفيرسون: (أنا مؤمن جداً بالحظ، وكلما عملت بجد أكبر كلما حصلت على المزيد من الحظ!!)، فهو يسعى للتصالح من نفسه، كي يتفرغ للخصام مع العالم وإقلاق راحته كما يشاء وكما يريد !!
جمال الجزيري إذا توقف لحظة عن القلق، فهذا يعني، ومضات جديدة بنَفَسٍ يتصالح مع القارئ، ويزرع فيه الأمل، ولكنه يبقى كعادته دائماً يأتينا بثوب حزين !!
في ومضته (ربيعي) ومع كل الأمل الذي يشع عبر كلمات النص، إلا أنه يُصرُّ أن يأخذه من أغنية حزينة تدمي قلوبنا، إنه ماهر جداً في زرع الحزن في حقول قلوبنا وإطعامنا فاكهة الحزن اللذيذة مرغمين !!
(ربيعي)
استمعت لأغنية حزينة تقلب الوجع وتعلو بالرأس. انفرج قلبي واحتضنت غدي.
وفي ومضة (قافلة) يظهر التقبل على شكل وهم يصنعه بيديه، ليخبرنا أن عصير التجاهل، قد يتغلب ولو لوقت قصير على نكهة الحزن في كل شيء فينا وحولنا !!
(قافلة)
أتيقظ لحظة. يصدمني الغياب ويعصف بي النوم، فأعود لتناومي كأن القافلة تسير.
وفي ومضة (قناع12) يحاول أن يمارس فن التقبل، على كل شيء يتحرك فينا ويبعث على الشعور بالخوف والحزن، وعلى فكرة القبول بالآخر مهما كان مجهولاً لدينا، كوسيلة لاكتشاف راحة الذات، والخلود إلى الطمأنينة حتى ولو كانت الرحلة تسير خلف بوصلة معطلة!!
(قناع 12)
تتأمل صورة رجل باسم بفزع. تحترق غضبا وانفعالا. تلقي بنفسها في بحار أوهامها.
وفي نهاية هذه الرحلة التي أفكر بأن لا أسميها حزينة، مع أنها تسافر عبر أجنحة الحزن، إلى فضاءات جمال الجزيري الحزينة والشاسعة، أتذكر كلمات نور البواردي :(كيف سأقول للحزن (وداعاً) دون أن أبدو خائنة للعشرة؟!) فكيف سنقول للدكتور جمال الجزيري :(وداعاً) ونحن لا نفكر في مفارقته في الأصل، ولكنْ ما يجبرنا على الابتعاد عن ومضاته، ولو لفترة قصيرة، هو كلمات عبده خال في (الأوغاد يضحكون) :(إذا كثرت أحزانك.. نم !!) .. وهو كذلك.. أنا ذاهب إلى النوم الآن، مع أنني أعلم جيداً، أني سأحلم بكلمات جمال الجزيري الحزينة مرغما !!
