حديث على ضفاف بردى وطلّة قاسيون مع إطلالة 2025

د. ماجد الخواجا …. 

 

قال عزّ من قائل :” قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيءٍقدير” ( آل عمران، 26).
في ليلة الخامس من أذار للعام 2011، لم أفكر أو أتردد من الوقوف والتأييد للثورة السورية، ليس عن نزقٍ أو حماسةٍ أو فزعة، بل كان قراراً طال انتظاره منذ أن وطأت تراب دمشق مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم أجد في أية زيارة لدمشق سبباً للراحة والطمأنينة، كان الخوف من مجرد توقيف شرطي لي كافياً للذعر من الدخول في غياب طويل طويل كما هو حال كثير من العرب الذين احتجزوا ذات غفلة وتم نسيانهم في الزنازين لعشرات السنين.
واصلت الوقوف مع الثورة السورية التي يحق لها أن توصف بأنها أشجع وأنقى وأصدق ثورة في عهد الربيع العربي. ثورة كلفت الشعب السوري 15 مليون مهجر، ما يقارب المليون ضحية، مئات الآلاف تم قتلهم وتذويبهم بدم بارد، تقطيع أوصال سوريا بالحواجز والمتاريس، تفتيت الوحدة الوطنية باستخدام ذريعة الطائفية المقيتة، تحويل دمشق لأكبر مصنع للمخدرات وتهريبها، توفير الملاذات لكل المجرمين وعتاة القتل في العالم، تهيئة الظروف لداعش كي تمارس صنوف القتل والرعب والإرهاب. فتح المجال للتدخلات الأجنبية بحيث أصبحت الأرض السورية كلها تحت الوصايات والانتدابات والحمايات لتركيا وأمريكا وروسيا وإيران وغيرها.
بعد 14 عاماً من عدم الاعتراف بوجود شعب عدده أكثر من 25 مليون، واعتبارهم مجرد مندسين وجراثيم ينبغي التطهّر والتخلص منها بأقذر أنواع الأسلحة المحرمة دولياً وأخلاقياً، ما بين الصواريخ العمياء، والبراميل المتفجرة الغبية، وصولاً إلى الكيماوي الذييقتل بدون دماء، قتل ناعم تغيب فيه الذاكرة والروح في الغوطة وداريا والقصير ودوما ومخيم اليرموك ودرعا وسراقب وجسر الشغور وحلب المدماة وإدلب المنكوبة وحماة المحملة بذاكرة الشهداء والجرحى والمختفين منذ عشرات السنين.
مع إطلالة 2025 تنفست سوريا حرية وكرامة وإنسانية وروح جديدة تحتفي بالحياة والفرح والسعادة.
لا يوجد عربي في العموم إلا وراودته فكرة وحلم الوحدة العربية بشكل ما، لكن هذا الحلم جاء مشوّها بعد أن استولى البعث بهيئته التي سادت لسنين طويلة عبر ممارسة أعتى صنوف القهر والاستبداد والاستقواء وتصنيف البشر في صنفين لا ثالث لهما، فإما أن يكون بعثياً وإما أن يكون رجعياً إمبريالياً إنبطاحياً ديماغوجياً، لكن هناك أيضا تصنيف بعثي داخلي عندما تم اقتسام الفكرة بين حزب بعثي عراقي وحزب بعثي سوري، فأصبح البعث بعثان، متخاصمان متعاركان لا يلتقيان بينهما عداء مقيم لا نهاية له. فيما كان التخوين لغة الخطاب الرسمي للنظام السوري، وإدعائه أنه حامل لواء القومية العربية، وأنه المحرر المنتظر لفلسطين بعد استكمال التوازن الاستراتيجي الذي امتد لعشرات السنين دون تحقيقه، لا بل شاهدنا مدى كآبة وتهالك ما يدعى بالجيش العربي السوري بعد تحرير سوريا من براثن الأسد وزمرته.
كان الفصام الفكري والسياسي يمثّل حالة سائدة لدى المؤيدين للنظام السوري، فهم يتحدثون عن أمّةٍ عربيةٍ واحدةٍ ذات رسالةٍ خالدة، لكنهم في الواقع لا يشاهدون هذا التوحّد إلا في فرع فلسطين سيءالصيت والذكر، وحدة تجمعهم في زنازين ومعتقلات دون تهمة حقيقية ودون الحق في الدفاع عن أنفسهم، ودون الحصول على أدنى مقومات البقاء والكرامة الإنسانية.
لقد أصبحت سوريا مجرّد إقطاعيات تحكمها عصابات لا هوية ولا مرجعية لها غير مصالحها الذاتية. وأصبح البشر مجرد أرقام لا قيمة لها، ويمكن التخلّص منها على أهون الأسباب ودون الحاجة لتبريرات أو مسوغات للإعتقال وصولاً إلى التذويب في الأسيد.
لم أستغرب بالمطلق عدم ظهور أعداد كبيرة هائلة للمساجين في معتقلات النظام الفاسد المجرم، لأنه من المتوقع أن سياسة ” تنظيف السجون أو تطهيرها” أولاً بأول كانت هي الممارسة المتبّعة مع المعتقلين، فلا حاجة لدى النظام لتحمّل تبعات وجود مساجين بهيئتهم الفيزيقية الجسدية التي تشكّل ضغطاً عليهم من قبل الأهالي ومن قبل منظمات حقوق الإنسان، وأيضاً لا رغبة لدى النظام وأجهزته بالسهر على حراسة المساجين وإطعامهم وعلاجهم وتوفير حاجاتهم الأساسية، فكان الحل السحري يتمثل بالتخلص من المساجين على شكل دفعات جماعية بالقتل العبثي الإجرامي المتوحش، الذي يوفّر للنظام وأجهزته القمعية فرص الإنكار لوجود مساجين لديه وعدم الاعتراف باعتقالهم.
نظام استعبد البشر وعمل على تربيتهم في محيط من الخوف والذعر الدائم وعدم اليقين وتوقّع الأسوأ، فما أسهل أن يجد الفرد نفسه مجرداً من كافة ألقابه ومكانته وعمره ليصبح رقماً تعيساً في سجن تدمر أو صيدنايا أو فرع الأمن السياسي أو المخابرات الجوية أو فرع فلسطين القميء.
نظام جعل الرشوة والفساد شعاراً وسلوكاً معاشاً وملاحظاً ما أن تدخل الحدود من أية جهةٍ كانت، فلا مجال للمرور والعبور إلا بالدفع، والدفع يتصاعد حتى يصل إلى ملايين الدولارات التي يمكن بها إنقاذ إنسان من مقصلة الإعدام أو فتح مشروع يدرّ الملايين الموزّعة بين عصابات النظام المتعددة.
نظام جعل عبادة الزعيم بمثابة الصلاة اليومية التي ينبغي لكل مقيم مواطن أو وافد أن يمرّ بين صور الرئيس وتماثيله وشعاراته في كل زاوية وزقاق وشارع وحارة.
نظام لم يستطع طيلة عهده على مدار عقود تأمين وصول الكهرباء بصورةٍ دائمةٍ، ولم يستطع توفير الخبز بشكل إنساني وحضاري، لم يستطع توفير الوقود للتدفئة، لكنه استطاع إشاعة الذعر والخوف من الحيطان، فالحيطان في سوريا جعلوا لها آذان، حتى صار الواحد يخشى من أخيه وأمه وأبيه وأخته وابن عمه وصديقه، كلهم مطلوب منهم أن يقوموا بدور المخبر للنظام حتى على أقرب المقرّبين منهم، حتى دون وجود تهمة حقيقية.
كان دائماً في دمشق ما تدعى بالمربعات الأمنية وهي مناطق ومواقع يسكنها أحد المجرمين من مسؤولي النظام فيغلق المنطقة بشكل أمني لتصبح تحت سيادته وسلطته ويحدد مصير من يجاوره فيها رغداً أو بؤساً.
نظام لم يطلق طلقة واحدة باتجاه الكيان الصهيوني، لكنه أطلق ملايين الرصاصات مستهدفاً قوائم اغتيالات داخل سوريا وخارجها.
نظام عادل في توزيع الظلم والقهر على مكونات الشعب السوري بجميع طوائفه ومعتقداته، فلم يسلم من أذاه سنّي أو درزي أو اسماعيلي أو مسيحي أو علوي. لا بل حمل الطائفة العلوية كافة الأوزار والموبقات التي يقوم بها بغية تحقيق هدفين الأول إشعار الطائفة العلوية أنها ستستهدف في حال تلاشي النظام، والثانية أنه زرع الحقد والكراهية بين مكونات الشعب السوري ليظهر كأنه الطرف الجامع المتفق عليه والذي لا مستقبل لسوريا بدون وجود هذا النظام.
نظام جعل من سوريا مسرح كبير للجريمة المنظمة والعبثية، فالكل مستهدف والكل له إدانة جاهزة، كانت سوريا عبارة عن أكبر سجن مفتوح، العيون تملأ الأماكن وترصد الحركات والسكنات، الإنسان جاهز للإعتقال والإختفاء القسري ودون الحاجة لبيان مصيره. لم يصل الأهالي لمعرفة مصير أبنائهم إلا من استطاع منهم دفع مبالغ طائلة لهذا الجهاز أو الفرع كي يحصلوا على معلومة مكان وجود المعتقل المختفي فقط.
نظام مارس المذابح الجماعية وحمامات الدم وزوّار الفجر منذ استلامه للسلطة، وليست حماة ومجازرها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلا حلقة من سلسلة ممتدة من الفظائع وجرائم الإبادة والتطهير الوحشية التي اقترفتها أجهزة النظام البائد.
نظام قد تجد نفسك معه مغيّباً في ظلمات المعتقلات بتهمة فريدة لا يوجد لها مثيل في العالم ألا وهي تهمة “تشابه الأسماء”.
نظام ليس إلا عصابات ومافيا لتصنيع وتهريب المخدرات وتجارة البشر واسترقاق واستعباد الأفراد واغتصاب العقول والأجساد واقتطاع نسب كبيرة من أية عوائد تجارية أو صناعية سواءكانت استيراداً أم تصديراً.
منذ الخامس عشر من شهر آذار لعام 2011، وحتى انهيار وهروب زمرة النظام المجرم، كنت وما زلت منحازاً للثورة السورية التي كان واضحاً أنها ستدفع أغلى الأثمان من أجل تحصيل الكرامة والحرية.
لم يحدث أن تم نفي 15 مليون مواطن خارج بلادهم كما حدث في سوريا. لم يحدث أن تم تهجير ملايين داخل الوطن، لم يحدث أن قام النظام الحاكم بتدمير البلد والمدن على رؤوس مواطنيها كما حدث في سوريا. دمر حلب والرّقة وحماة وحمص وأريافها جميعاً، دمر أحياء بكاملها في دمشق وأريافها، دمر درعا والسويداء ودير الزور والحسكة وإدلب. دمر احياء في اللاذقية وجبلة وطرطوس.
حين تشاهد قنوات الجزيرة والعربية والحرة والعربي تتفق وتتفرغ للحديث عن سوريا الجديدة سوريا المستقبل، وتتحدث بذات اللغة عن النظام الهالك المقبور، حينها تتيقن أن الحق أولى في الموالاة.
لا أحزن إلا على أولئك أيتام الأنظمة القمعية الذين لاكوا كثيراً مدحاً لممارساتها، والآن يبكون على مشهد هنا أو هناك ويبتاكون على الديمقراطية والحرية التي بالأساس ومنذ قيام تلك الأنظمة لم يكن من هدف رئيس لها غير التخلص من الديمقراطية والداعين لها.
نعم سوريا تنفست فهي كانت مختنقة وميتة سريرياً تحت حكم أقذر طغمة حاكمة عبر التاريخ المعاصر. سوريا تتعافى لكنها بحاجة لكثير من الطبابة المشبعة بالإنسانية الحاضنة لجميع أبنائها.
سوريا كانت أكبر مقبرة جماعية لكل المعتقلين والمختفين قسرياً.
سوريا تحررت والنظام خلع وانهزم الأسد .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.