حوادث الدهس والأحزاب الأردنية
بقلم الإعلامي العميد المتقاعد هاشم المجالي ابو عمر …..
بادئ ذي بدء، وبما أنني أحد أولئك الذين ذاقوا مرارة الفقد، واصطلت قلوبهم بجمر الحزن، وأظلمت الدنيا في أعينهم بعد أن كانوا يرون فيها نوراً يشع من محيا أحبّتهم، فإني أكتب كلماتي هذه وفي القلب جرح لم يندمل، وفي الروح وجع لا يفتر، فقد فقدتُ ولدي، فلذة كبدي، ونور عيني، المرحوم الشهيد عُمر الذي كان يحلم بأن يكون شهيدا على أسوار الأقصى ، ضحية حادث دهس أليم، ما كان ليخطر ببالي أنه سيكون سبباً في افتقادي له إلى الأبد.
لقد أُرهقت نفسي بعد فقده، وكادت الضغوط الاجتماعية أن تخنقني، فدفعتني إلى العفو عن الجاني، فوق قبر المقتول، لا رغبة في الدنيا، ولا رهبة منها، بل طاعة لله، وإكراماً لروح الراحل، غير أنني اشترطت على السائق شرطين اثنين: أن لا يترك الصلاة، فهي صلة بين العبد وربه، وأن يبرّ بوالديه، فلا يغضبهما ما داما على قيد الحياة، ومن يومها لم ألقَ وجهه، ولم أطلب مالاً، ولا لجأت لعشيرة، بل تنازلت عن حقوقي جميعها.
غير أن ما يُؤسف له، وما يُفتّ في الكبد، أن حوادث الدهس اليوم قد استفحلت، وصارت في كل يوم تتكرر، وكأنها قدر لا مرد له. فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع خبراً يوجع القلب، أو نرى مشهداً يبعث على الحزن، عن طفل بريء أو شيخ كبير أو شابة يافعة قضوا تحت عجلات من لا يعرفون قيمة الأرواح.
ثم تتعالى أصوات الجاهات، وتتوافد الوفود، ويعلو صوت العشائر على صوت القانون، ويُطلب العفو، ويُمدح الصفح، ويُستدر العاطف، بينما يذهب دم المظلوم هدراً، وكأن الأرواح سلع تُساوَم في مجالس الصلح.
وقد كنا نظن أن الدولة، والأحزاب، وممثلي الشعب، سيتنبهون لهذا الداء العضال، فيشرّعوا من القوانين ما يحمي الناس، ويشنّوا من الحملات الإعلامية ما يوقظ الضمائر، ويؤسسوا للوعي المروري والتربية المدنية، لكننا – وللأسف – لم نرَ إلا صمتاً، أو مشاركات باهتة لا تتعدى كلماتٍ جوفاء أو ولائم تُقام على حساب المكلومين، تزيد من شهرة بعض النواب أو الأحزاب الهلامية، التي لا همّ لها سوى الكسب الانتخابي.
أيتها الأحزاب، يا من تزعمون تمثيل الشعب! ويا أعضاء المجالس التشريعية! اعلموا أن المجني عليه قد يكون طفلاً وحيداً، أو أماً رؤوماً، أو أباً كادحاً، وأن فقده كارثة لعائلته، لا تنتهي بانقضاء العزاء، بل تبدأ عنده المآسي من حرمان ويُتم وفقر، فيما يعود السائق المستهتر إلى بيته مزفوفاً بالزغاريد، وكأنه عاد من نصرٍ مظفر، لا من جريمةٍ ارتكبها!
أيها السادة، إن كنتم حقاً أهل مسؤولية، فكونوا مع المظلوم، لا مع الظالم، وادعموا ذوي الضحايا لا الجناة، فالدين قد أمر بالقصاص، لا بالتساهل مع المهملين، وإن القضاء والقدر لا يسقطان مسؤولية العدل والإنصاف.
اتقوا الله في الأرواح، وفي دموع الأمهات، وفي آهات الآباء، وكونوا عضداً لمن ذاقوا مرارة الفقد، لا عوناً لمن تسببوا فيه.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.