التحدي الأخير

د. نهلة شجاع الدين  ….

قد يكون التحدي اليوم هو تحدي الالتزام بالأخلاق النبيلة والقيم الإنسانية..المرافقة للاقتصاد والسياسة في اي حضارة كانت وفي أي زمن كان …اليوم في منطقتنا العربية لا فائدة من الحديث عن صناعة حضارة ..ولا جدوى من التوعية حول مفاهيم صناعة المستقبل …فالأمر الذي بات مُلِحًا ..وضرورة مستعجلة …هو الحديث والتوعية عن كيفية طي آخر صفحة من صفحات حضاراتنا بأقل الأضرار …كيف نعيد التأهيل النفسي للأفراد والمجتمعات بحيث يتقبلون صدماتهم ..وخسائرهم المعنوية والمادية الناتجة عن العيش في ظل هذا الانحلال القيمي الذي هدم ما تبقى من جمال وما تبقى من أسباب للراحة والأمان .
الجميع يعلم ان الخسران المادي مؤلم جدا …لكن مالا يفقهه أو لايركز عليه الأغلبية العظمى هو أن خسران القيم الإنسانية بفعل كل هذه التيارات الهادمة والتي أتت موجهه خصيصا لهدم وتضييع ما تبقى للعربي من هوية بهدف اقتلاعها من جذورها بحيث تعيق أي محاولات مبكرة للتبرعم أو الإزهار من جديد .
فهذه الرياح العاصفة بدأت كتيارات خفيفة تنحت في قيمنا وتحور في أخلاقنا وسلوكياتنا من خلال الدورات التدريبية الداخلية والخارجية في إطار حقوق الإنسان عموما أو حقوق جماعات ضعيفة كالأطفال أو النساء أو مناهضة العنف أو أي مسمى جميل تتحف بسماعه الآذان وتصغي إليه العقول والقلوب …خصوصا تلك العقول وتلك القلوب الشابة التي عانت من تكبيل وتعنيف طوال حياتها ! وفي نفس الوقت تحمل في كينونتها طاقة عظيمة تتمنى خلق لحظة للتفريغ .. …فهي تكتسب معلومات تحمل قيم إنسانية عظمى …تحمل في طياتها العدل والمساواة …وتصطدم بذات اللحظة بواقع يأن تحت سياط الظلم والعنف بكل أنواعه الموحشة ، هذا التباين بين معرفة اليوم وثقل مايعانية العربي من إشكاليات متراكمة ومترابطة مع بعضها أدى إلى رغبة في الحياة بصدق حد الانفجار .
تلك المرحلة احتاجت مايقارب عقدا من الزمن امتلأت فيه الأخبار بالدورات وورش العمل حول مفاهيم جديدة ومحفزة يتوق لها كل الشباب …فهاهي حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل …وقضايا الجندر وقضايا المهمشين تحت عنوان عريض اسمه الحقوق والحريات…هذه البيئة الخصبة والموجهة للمجتمعات نحو التغيير …كان لابد لها من حلقة أخيرة … فكانت حلقة الربيع العربي ذات الاسم اللطيف هي الحلقة الأقوى في تلك الدراما . ..دراما صنع التغيير بطريقة موجهه لا تخدم إلا من كتب الخطة وفصل السيناريو وخلق النية في إطار يخدمه لا يخدمنا …يحقق أهدافه لا يحقق أهدافنا …أهداف الاستغلال لا أهداف التنمية …أهداف الاستعباد لا أهداف الحرية !
هذا الربيع برياحه العاتية ومعاوله الضارية يحاول جاهدا ان يقتلع ويحطم ما تبقى لنا من هوية ! و ماتبقى لنا من قيم ! فمع رياح الربيع رأينا العديد من القيم تتكسر واحدة تلو الأخرى كأنها عقد مسبحة تنفرط حبة حبة …الأمر الذي يخلق أمامنا تحدي كبير أراه التحدي الأخير ، بعد ان خسرنا كل المعارك وعلى كل الجبهات وعلى كل الأصعدة …فها نحن العرب اقتصاديا مهزومون ..وسياسيا مهزومون ..وامنيا مهزومون …وثقافيا مهزومون …لكن تظل هناك قيم إنسانية ومجتمعية إن لم نركز عليها ونسوّقها ونحييها من جديد فأظن أننا سنخسف في قعر الإنسانية ولن تقوم لنا قائمة .
قد يكون الحديث حول ضرورة المحافظة على ما تبقى لدى الإنسان العربي من الأخلاق والقيم موضوع يمثل رفاهية لا تتناسب مع ضرورات الأفراد والأسر والمجتمعات من وجهة نظر الكثير ! لكني أراها التحدي الأخير الذي يستحق منا الاعتراف والمواجهة باقوى ما نملك من طاقات وأقصى ما يمكننا من أدوات .
أملي الوحيد انه لا تزال هناك مجموعة متناثرة من الأشجار الطيبة ،الشامخة أغصانها جهة السماء،والضاربة جذورها في عمق الأرض والتاريخ ،تلك الأشجار الرافعة رأسها بقيم لا ينبغي التفريط فيها او العيش دونها ،قد تكون قليلة أو نادرة في عددها ،لكن تأثيرها سيؤثر حتما في عكس المعادلة، حتى تثبت للعالم ان الهوية العربية ستتعافى عن قريب .وان العز مصير يستحقه الإنسان العربي ككل.. كحق طال انتظار انتزاعه …وأمنية طال التسويف دون امتلاكها .

د. نهلة شجاع الدين

الكاتبة من اليمن

قد يعجبك ايضا