فادي السمردلي يكتب: الموازنة العامة بين استعراض الخطب وترسيخ ثقافة العمل الحزبي الجماعي
بقلم فادي زواد السمردلي. …..
*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*
تُعدّ مناقشة الموازنة العامة إحدى أهم اللحظات السياسية في العام، فهي ليست مجرد أرقام تُعرض وتُناقش، بل مساحة لقياس نضج الحياة الحزبية وقدرة الأحزاب على تقديم رؤى جماعية متماسكة تعبّر عن هويتها السياسية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية غير أنّ الواقع يظهر أن كثيراً من الأحزاب ما تزال تتعامل مع هذه المناسبة بوصفها فرصة للظهور الإعلامي أكثر منها ساحة لإنتاج موقف حزبي موحد، فيتحول النقاش إلى سباق في إلقاء الخطب، وينشغل المتحدثون بجذب الأضواء بدل تعميق الحوار الذي ينتظره الشارع وهنا يبرز سؤال محوري هل تستثمر الأحزاب حقاً نقاش الموازنة لتعزيز مفهوم العمل الجماعي، أم أنها ما تزال أسيرة ثقافة فردية تُضعف حضورها وتزيد الفجوة بينها وبين المواطنين؟
الفكرة القائلة بأن يقدّم كل حزب كلمة واحدة شاملة تعكس موقفه من الموازنة ليست مجرد اقتراح تنظيمي أو شكلي، بل هي دعوة لإعادة تعريف العمل الحزبي نفسه فكلمة واحدة تعني أن الحزب تمكّن من عقد نقاش داخلي جاد، وأنه استطاع صياغة قرار سياسي يمثّل جميع مكوّناته، لا رأي شخص واحد أو جناح واحد فكلمة واحدة تعبّر عن قدرة الحزب على إنتاج رؤية متماسكة ناضجة تتجاوز المزايدات وتغليب المصالح الشخصية فمن ينجح في ذلك يُثبت أنه يمتلك بنية تنظيمية حقيقية ولجاناً فاعلة وحواراً داخلياً حقيقياً يسبق الظهور في البرلمان.
فبدلاً من الماراثون الخطابي الذي اعتاد الجمهور مشاهدته سنوياً، والذي غالباً ما ينتهي دون نتائج ملموسة أو إضافات جوهرية، تتحوّل الجلسة إلى مساحة مركّزة تُعرض فيها خلاصة المواقف بطريقة محترفة تُقدّم الفكرة لا صاحبها. حين يُختصر الوقت، ويُستبدل الاستعراض بطرح موضوعي مختصر، يشعر المواطن أن الأحزاب بدأت تُمارس السياسة بمعناها المؤسسي لا الخطابي، وأنها قادرة على ضبط خطابها بما يخدم الجوهر لا الشكل وهذه خطوة مهمة في إعادة الاعتبار لدور الأحزاب الذي تراجع كثيراً بسبب تغوّل الفردية داخلها، وغياب الرؤية الجامعة، وافتقار كثير منها للمؤسسية المطلوبة.
كما أنّ الانضباط في تقديم كلمة واحدة شاملة يمنح الحزب فرصة لتقديم ذاته بصورة أكثر نضجاً فهو يظهر كفريق واحد لا كمجموعة أصوات متنافرة، ويعكس صورة حزب يعرف ما يريد ويعرف كيف يقول ما يريد ببلاغة مختصرة دون ضجيج وهذا التحوّل من شأنه أن يعيد بناء الجسور مع الشارع الذي فقد ثقته بالأحزاب بعد سنوات من الوعود المتكررة والخطابات المُنمّقة التي لم تتجاوز حدود الحديث فالجمهور اليوم أكثر وعياً، وأكثر قدرة على التمييز بين الخطاب الموجه للإعلام وبين الرسائل السياسية الحقيقية.
وإذا ما التزمت الأحزاب بهذا النهج، فإن ذلك سيُسهم في إظهارها كقوى سياسية مسؤولة تمتلك مشروعاً لا خطاباً، وقدرة على الالتزام لا على المزايدة، وعلى تقديم حلول لا استعراضها فالموازنة العامة ليست مسرحاً للخطابة، بل طاولة اختبار لمدى قدرة الأحزاب على تقديم بدائل عملية، وتقديرات واقعية، ومواقف نابعة من قراءة مؤسسية للواقع الاقتصادي والمالي.
إنّ الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد الكلمات التي تُلقى ولا بطول الخطابات، بل بقدرة الأحزاب على التفكير والعمل بطريقة جماعية وإذا أرادت الأحزاب أن تستعيد مكانتها الطبيعية في الحياة العامة وأن تقترب من الشارع الذي ما يزال ينظر إليها بشيء من الحذر، فعليها أن تبدأ من هذه اللحظة لحظة مناقشة الموازنة، وأن تجعل منها فرصة لتأكيد أنها تمثل جماعة سياسية حقيقية لا أفراداً يبحثون عن الأضواء وعندها فقط يمكن أن نشهد ولادة مشهد سياسي جديد يتقدم فيه العمل الجماعي على الفردية، وتعلو فيه المصلحة العامة على حسابات الخطاب العابر.
الكاتب من الأردن