اعتزال العدم

محمد المطرود

 

منذ فترة وأنا مصابٌ بفكرة اعتزال الآخرين، اعتزال أمزجة الآخر والانشغال بوجوده، كأحدٍ يقدّم حاله على حالي، ويريدني مهتمّا بشأنه أكثرَ من شأني ومشاغلي، وأكادُ أعرفَ السببَ من حيث معرفتي بنفسي وطبعي ومراني في الحياة، إذ كنتُ دائما أفشلُ في أنْ أكونَ ممثلا، في الوقت الذي يريد فيه الآخرُ إلّها كالآلهة الجبارة التي يَردُ ذكرَها في الميثيولوجيا.
لعلَّ والحالُ هذه لابدّ من مسيحٍ يدير خدّه الآخر للذي يضربه، ولابدّ من متمثلّ للآية: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». هذا كلام الله في «سورة الحشر»، أي عندما يصطفُ الجمع الصالح والطالح والمابينهما أمامَ بوابة الدخول في العالم الآخر، الحشر الذي أعنيه هنا هو حشرٌ داخلَ النفس وحشر للآخرين في النفس ذاتها، حتى تضيق بهم وبأهوائهم وأمزجتهم وتفضيلهم لذواتهم على ذاتك، حتى إذا تأففتَ في موقف، وصرختَ من حزّ سكينٍ أو كلمة قاتلة حقَّ عليكَ النفي، فأنت لا تؤثر على نفسكَ وكُلُّكَ خصاصةٌ، فاخرج من بين الحشد ولا تقف على بوابة الدخول في العالم الآخر أو عالم الدنيا (ليس مكانك وأوانك) خلقتَ لتكونَ مطية حمقى، فسّروا طيبتكَ وطبعَ السيدِ فيكَ سذاجة، حتىَ جاءكَ (الذباب) من كلّ حدبٍ وصوب، و«من كلّ فجّ عميق» هذا يستشيركَ ولا يُشار، وهذا يبتزكَ مالا ولا يمونكَ على درهمٍ، وهذا ينجّرُ لكَ خازوقا باسمِ الأخوّة ولا يرتضي منكَ وخزَ إبرة، وهذا يبيعكَ إذا توفرّ له أحدٌ غيرك، أنتَ بالنسبة لهُ علبة كونسروة لها تاريخ صلاحية، أو شاة لها موسم واحد لدرّ الحليب!
منذ فترة أنسحب من كلّ موقف يضطرني للكذب والمساهمة في العويل الذي يسميه فاعله نشيدا، وأترك النميمة التي عادة أمارسها مجاملة بيضاء للآخر، أخففها كعادةِ من يخففها فتكون بيضاء وهي سوداء وسوداء، وظلالها مقيتة وتثير خلفها زوبعة من اللاشيء، غالبا ما نبدأ حفلة إعدام الصديق قبل العدو، لأنّ كلّ حديثٍ نستهله بصفةٍ طيبةٍ للمذكور، ثمّ نتبعها بسيلٍ جارفٍ من السيئات، ليسَ من الضرورة أنْ تكون سيئات وإنّما الحفلة تقتضي قلبَ الحقائق وتغيير الألوان وتعطيل الضمير إلى أجلٍ غير مسمى، حقيقة أنا شاركتُ هؤلاء، كثيرا ما كنتُ محراثا للجمر ومستفزّا للنار الكامنةِ في النفوس، لا أجلدُ نفسي هنا، غير أنني أعتذر من طبعي الذي لم يكن هكذا، طبعي الذي ربيتهُ بالحياء والمحبة وتصديقِ كلّ من يحيط بي، لا أبدا ليسَ كذبهم من جرّني إلى حفرةِ التشويه، لكنّ نفسا كانت بيضاءَ وحاقَ بها الكثير من الهباب طيلة سنوات حتى جعلها أقرب إلى السواد المُدهنِ الكثيف، أقرب إلى المكاشفة الفجّة، أقربُ إلى الوقاحة، والصورة الجامعة: الحقيقة، أقصدُ أنَّ الوقاحة تأخذ طريقها إلى مستمعها في ظلّ الصراحة التي يقالُ إنّها أسُ وعمادة الحقائق، أي حقائق لا يهم، المهم تغليفُ تلك الوقاحة بما يخرجها من فجاجتها إلى تقبلّها ولو وهما ولو كذبا. وقد كنتُ أفعلُ ما أفعلُ تحتَ ضغط الخروف الذي كنتهُ لزمن.
منذ فترة أتجوّل في الطبيعةِ، الحدائق، الغابات، الأنهار، أدرس العلاقة الأزلية بينَ أنْ أكونَ جافا وصلبا مثل حجر، ولا أجدُ تفسيرا كافيا بينَ الجاف والرطب والمائي إلا ما يفهمه الجميع بأنّ كلُّ أحدٍ يبحثُ عن ضدّه، عن عكس طبيعتهِ، كما لو أنّ هذا الكشف الجماعي ينطبقُ على الأصدقاء والأعداء والزوجة والأبناء، على الأبناء فأنا ميّالٌ لابنتي أدللها وأحتفي بصورها، بينما تحتفي زوجتي بابني الذكر وترسمُ حوله دائرة عن عينِ الحسد. كذلكَ أتنزّه في نفسي في رحلة المشي والاستئناس بظلي، أكلمها كأنّها أحدٌ سواي جادا وناقدا وقارئا فأعثر على معدن كريم بين الكثير من الركام الذي خلّفتهُ السنين المحيقة بي، ذلكَ الهباب الكثيف الدبق مثل إليةِ شاة مذبوحة، تنزّ دسمها في حرّ الجزيرة السورية، أبحثُ عن جزء من النبيل الذي فقدته فأجدُ ما يدلُ عليه بين البكاء والشغب والصراع الذي يفتعلهُ سجناء روحي ليخرجوا، فقد ضاقت عليهم، وهم يتحمّلونَ وزر أحد ينوسُ بينَ المحبة والكره، بين اللين والصلابة، بينَ المجاملة والوقاحة، بين أنْ يكونَ فاديا أو جزءا من محاكم التفتيش، لطالما كانَ مؤثرا على نفسه، إيثارا يسميه هو طيبة ويسميه الآخر: سذاجة، أكادُ أميزُ الآن الصراع من الثقةِ، وما أعيشه هو الثقة التي أعطاني إياها الحشر على بوابة اللاشيء، ولهذا أنا حشدٌ بي وواحد بالآخرين!

يقول سبينوزا: «إن كل الأشياء النبيلة صعبة بقدر ما هي نادرة.»

منذ فترة أفكر حثيثا باعتزال العدم، ليس اعتزال الحياة لأنني مشدودٌ إليها وأحبّها، ولدي مشاريعٌ عليّ إنهاؤها قبلَ أنْ أستسلم للعدم الكليّ حولي، أعتزل اللاجدوى لأكون جديرا بالجدوى، اعتزل الانشغال بالآخرين لأنشغل بي فأسلَم منهم، ويأمنون مني. قالَ لي صديقٌ شاعرٌ:» أنتَ لا تتعلَم من طعنات الذين تأمن جانبهم» قلتُ: أمّا طبعي فلا أجدني قادرا عليه لأكون شخصا آخر، أما وقدُ بدأت مرانا لاعتزال العدم، فقد فتحت بابا للطارئين ليخرجوا، وإذ كنت قبل أذرفُ من روحي الكثير على الفقد، أي فقد، صرتُ اليوم أشبَه بجسمٍ صقيلٍ لا يعلقُ بي إلا ما أريدُ أنْ يعلق بي.

٭ شاعر وناقد سوري

قد يعجبك ايضا