كاسارِس مؤلّف العالم على غير قواعده
حسن داوود
في مقدّمته لمجموعته يشير أدولفو بيوي كاسارِس إلى قصتين من قصصها قائلا، إنه عاش معهما سنوات عديدة. أولاهما «عن شكل العالم» التي ولدت، بحسبه، من طرفة مازح بها ابنته مارتا، حين كانت بعد صغيرة، حيث قال لها إنهما وصلا، من دون أن ينتبها، عبر نفق إلى شاطىء الأوروغواي. وهكذا أيضا في القصة حيث يذعن بطلها الشاب، الذي يلقبونه بالجغرافي، لإرادة رجل تعرّف به على متن باخرة، بعد أن تلقى وعدا منه بإيصاله إلى المكان الذي يقصده في الجزيرة التي لا يعرف أين هي. ظل هذا الرجل متسلطا وآمرا طيلة رفقتهما معا، وهو في الطريق إلى حيث لا يعلم الشاب، أنزله في ما يشبه النفق المتشكل من تكاثف العشب، ليصل منه إلى مكان، بل إلى عالم مختلف كليا. هي مسيرة لا تتعدّى الدقائق الخمس أمكن لهما فيها أن يقطعا مسافة يحتاجان لاجتيازها إلى أيام.
هذا اللعب بالجغرافيا، وبالزمن أيضا، يجعله كاسارِس متاهة يُغرق فيها بطله الشاب. ذلك ما نتابع تفاصيله في رحلة العودة التي كان على الشاب أن يقوم بها منفردا. عوالم من جزر ومستنقعات، تصل بينها طرق مضيِّعة كلها. هو أدب المتاهة غير المقتصرة على المكان وحده، بل هي متاهة في الزمان أيضا. في القصة الثانية التي خصّها كاسارِس بالذكر «المجهول يجذب الشباب»، يُرسَل شاب (آخر) إلى المدينة التي لا يعرفها، من أجل أن يسلم رسالة في وقت محدد بدقة يصعب الالتزام به. قال له مُرسله إن عليه أن يكون هناك يوم «الجمعة 27 مارس/آذار في الساعة الثانية عشرة والنصف، في شارع خوخوي رقم 2797 وأوصيك ألا تحضر قبل دقيقة أو بعد دقيقة، لأنهم حينها سيدرزونك».
هذا اللعب بالجغرافيا، وبالزمن أيضا، يجعله كاسارِس متاهة يُغرق فيها بطله الشاب. ذلك ما نتابع تفاصيله في رحلة العودة التي كان على الشاب أن يقوم بها منفردا.
في هذه القصة نقرأ عن متاهة مدينية هذه المرة، حيث الأرقام تتتالى على رأس الشاب، مختلفة كل مرة وكثيرة، ما دام أن كل واحد ممن يرشدونه يصحّح له ما كان قد زُوِّد به خطأ. القصتان، اللتان يسميهما كاسارِس روايتين قصيرتين، إذ يصل عدد صفحات كل منهما إلى نحو الأربعين صفحة، تدوران حول الرحلة أو الانتقال إلى عالم مجهول من طريق مزدحمة بكل ما يضيّع أو يعيق. وفي القصتين هناك رجل قادر متمكن يعبث بشاب في مقتبل طموحه. كل مكان يبلغه الشابان يزيدهما ضياعا. أما الوقت فبالمرصاد دائما. فالشاب الذي كان عليه أن يصل غير متأخر دقيقة أو متقدّم دقيقة يخذله نومه، أو يخذله المنبّه الذي زودّته به خالته، فيجد نفسه وقد غرق في النوم ثلاثة أيام كاملة، ناجيا بذلك من بلوغ الموعد القاتل.
في بداية قصة «باب يفتح» نخال أنفسنا إزاء رجل يتزين بكامل أناقته مهيّئا نفسه للانتحار. فجأة تقع عيناه على قصاصة إعلان يدعوه إلى زيارة مركز شفائي، فيذهب إلى هناك حيث نقرأ حوارا اختصاصيا ومهنيا مع موظفي المركز وطبيبه. أما ما يدور الحوار حوله فتجميد الرجل أو تنويمه لمئة عام، عله حين يستفيق يجد نفسه في ظروف حياة مؤاتية. ولا يتأخر حصول هذا التنويم، ولا حصول الاستفاقة التي تحدث فوريا ليجد الرجل معشوقته التي حاول الانتحار من أجلها موجودة هناك، في المئة سنة المقبلة التي بلغها. وبضرب من الهزء الأدبي، أو السخرية من كل نهاية سعيدة، يجمع كاسارِس العاشقين في قصة تامة الحبكة ومغرقة في جديّتها.
مع كاسارِس هناك، على الدوام، مزج بين الغريب وغير المتوقع والبوليسي، ورغم الواقعي في القصص التي تخبّئ، إلى أقصى ما يستطيع مؤلِّفها، المعنى أو القصد اللذين يذهب إليهما.
مع كاسارِس هناك، على الدوام، مزج بين الغريب وغير المتوقع والبوليسي، ورغم الواقعي في القصص التي تخبّئ، إلى أقصى ما يستطيع مؤلِّفها، المعنى أو القصد اللذين يذهب إليهما. واحدة فقط من قصص المجموعة تظهر تنازعا واقعيا يقوم بين أجيال وطبقات اجتماعية. قصة «مسافرة الدرجة الأولى» التي لا يتجاوز عدد صفحاتها الثلاث صفحات تجري على لسان امرأة عجوز تشكو من أن ركاب الدرجة الثانية يتلقون معاملة أفضل مما يتلقى أولئك الذين في درجتها (الأولى). وهي تعدّد تلك الميزات واحدة واحدة، محتجة لكن مدركة في الوقت نفسه، أن هؤلاء الذين في الأسفل أكثر حظا لأنهم أقرب إلى الحياة، لكونهم ما يزالون في عمر الشباب. بقدر من المرارة تنطق تلك المرأة بما هو مزيج من الرثاء والكراهية، وأيضا بمزيج من التورط والحيادية، بؤس الجيل الذي تنتسب إليه. ذلك أيضا يمكن إدراجه في أدب كاسارس الذي يخيل لقارئه أنه على الدوام يضع الأشياء في غير مطارحها، سواء كانت أمكنة أو أفكارا أو مشاعر، ويجهد في أن يخلق من ذلك عالما متجانسا. يشترك في بعض ذلك مع خورخي لويس بورغيس الذي كان صديقه على كل حال، وهما شكلا جمعية غيرت اتجاه الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، وظلا يوقعان معا باسم بوستوس دْوِك على مدى يقرب من أربعين عاما.
*مجموعة «بطل النساء» لأدولفو بيوي كاسارِس نقلها إلى العربية رفعت عطفة عن «منشورات الجمل» في 188 صفحة، سنة 2018.
٭ روائي لبناني