ميثاق مبادئ الجمهورية: وسيلة لفتح أفق أمام مسلمي فرنسا أم أداة لأغراض انتخابية؟

وهج نيوز : بعد مفاوضات شابتها خلافات داخلية كثيرة بين المنظمات الهيئات الإسلامية المنضوية تحت مجلس الديانة الإسلامية الفرنسي، وضغوط مكثفة من قبل الحكومة ورئاسة الجمهورية (الاليزيه) في البلاد؛ تبنّت خمس هيئات من التسع التي يتكون منها المجلس يوم الأحد الــ17 كانون الثاني/يناير الجاري، ميثاق مبادئ يهدف إلى توفير إطار عملي للأخلاقيات وقواعد السلوك التي يجب أن تنظم سير عمل مؤسسة يُنتظر أن ترى النور في المستقبل وتسمى “المجلس الوطني للأئمة”.

وتم إضفاء الطابع الرسمي في اليوم الموالي على “ميثاق المبادئ” هذا خلال اجتماع في قصر الاليزيه مع الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان قد طلب صياغته، منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، في ظل تزايد الضغوط على الحكومة والهيئات الإسلامية على خلفية مقتل مدرس التاريخ صامويل باتي ذبحاً، في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد أن عرض خلال الدرس صوراً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام. وتزايدت الضغوط ذاتها بعد الاعتداء الإرهابي داخل كنيسبة نوتردام في مدينة نيس الساحلية والذي راح ضحيته ثلاثة أشخاص.

“الوصايا العشر”

شدد الميثاق في ديباجته على أن ألا شيء يمكنه أن يحل محل المبادئ التي قام عليها دستور الجمهورية الفرنسية، واستلهمت منها قوانين البلاد. وهو يتألف من عشر مواد، بما في ذلك، مادة تنص على التوافق التام بين القيم الإسلامية والمبادئ والقيم التي تغذي القوانين المعمول بها في الجمهورية الفرنسية، وعلى أن مسلمي فرنسا ينتمون بالكامل إلى المجتمع الوطني. ونص الميثاق أيضا على مبدأ المساواة بين النساء والرجال، كما شدد على رفض توظيف الإسلام لغايات سياسية، وعلى رفض التدخل الخارجي في شؤون المسلمين بفرنسا، وإدانة الأعمال المعادية للسامية، وبحرية الضمير والانتقال من دين إلى آخر.

وقد وصف عالم الاجتماع الفرنسي فرانك فريجوسي ما ورد في مضمون هذا الميثاق بـ”وصايا الإسلام الجمهوري العشر” على حد قوله. ويتعهد الموقعون على هذا الميثاق باحترامه وبالعمل من أجل السلم الأهلي ومحاربة جميع أشكال العنف والكراهية. وهو ما رحب به الرئيس ماكرون، مشيداً بما اعتبره التزاماً واضحاً وحاسماً ودقيقاً لصالح الجمهورية الفرنسية، وواصفاً الميثاق بأنه “نص تأسيسي حقيقي للعلاقات بين الدولة والإسلام في فرنسا”.

ورأى غالب بن الشيخ، رئيس “مؤسسة إسلام فرنسا” في رده على سؤال لـ”القدس العربي” أن النقطة الجديدة الوحيدة التي أتى بها هذا الميثاق، هي الحسم في مسألة أن “ليس هناك أي تعارض بين ما يدعو إليه الدين الإسلامي مع قيم الجمهورية الفرنسية”. ويؤكد بن الشيخ أن الميثاق يفترض في نهاية المطاف أن يكرس لدى الرأي العام الفرنسي والمسلمين الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا قناعة بأنه لا تناقض بين قيم الجمهورية الفرنسية من جهة والمرجعية الدينية الإسلامية من جهة أخرى شريطة جعلها تتكيف مع الواقع الفرنسي. ولكنه يرى أن السعي إلى تنفيذ هذه المبادرة باعتبارها جاءت من خلال الحوار مع عينة من الهيئات التي تمثل مسلمي فرنسا يطرح قضية شائكة.

مآخذ كثيرة

ما يدعم رأي غالب بن الشيخ ومراقبين آخرين لديهم معرفة بشؤون المسلمين في فرنسا بشأن إشكالية تمثيل مسلمي فرنسا، أن هذا الميثاق تم رفضه من قبل ثلاثة اتحادات من أصل تسعة منضوية تحت راية مجلس الديانة الإسلامية الفرنسي وهي: “اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك بفرنسا” و “الاتحاد الإسلامي مللي غوروش في فرنسا” و”حركة إيمان وممارسة”. فقد اعتبرت الهيئات الثلاث في بيان مشترك أن هناك فقرات وصياغات في النص من شأنها إضعاف أواصر الثقة بين مسلمي فرنسا والأمة الفرنسية، وأن “بعض العبارات الواردة في الميثاق تمس بشرف المسلمين ولها طابع اتهامي وتهميشي”. غير أن بعض المصادر المتابعة للملف تؤكد أن اعتراض الهيئات الثلاث هو خصوصاً على مفهومي “التدخلات الخارجية” و “الإسلام السياسي” كما نص عليهما الميثاق.

والحقيقة أن من يتوقف عند علاقات المنظمات والهيئات التي تسعى إلى أن تكون واجهة الجالية الإسلامية في فرنسا والوسيط بينها وبين مؤسسات الجمهورية الفرنسية في ما يخص الشعائر الدينية، يهتدي بسرعة إلى وجود خلافات كثيرة بين بعضها البعض مما انعكس سلبا على أدائها. زد على ذلك أن أي هيئة منها لم تنجح حتى الآن في الحصول على إجماع من قبل أعضاء الجالية الإسلامية أو على الأقل جزء منها بوصفها الطرف الذي يمثلهم بحق عن جدارة وبشكل شرعي .

هذا ما يلح عليه الصحافي والمحلل السياسي المقيم في فرنسا علاء بونجار قائلا: “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لا يحظى بالمشروعية اللازمة. فكيف يمكن أن يكون هناك ميثاق باسم الإسلام والمسلمين علما أن هذا المجلس لا يعترف به الكثيرون”. ويرى بونجار أن هذا الميثاق لن يكون له أي تأثير إيجابي، بل إنه قد يؤثر سلبًا، بحيث يعطي لبعض مسلمي فرنسا انطباعاً بأن هناك نوعا من التعامل الفوقي من طرف الحكومة الفرنسية، على اعتبار أن هناك أجندة سياسية للرئيس ماكرون الذي استدعى ممثلي الإسلام وطلب منهم تقديم ميثاق معين حتى يقدم ذلك للفرنسيين على أساس أنه إنجاز بحيث إنه استطاع أن ينظم الإسلام في فرنسا، وهذا سيؤدي إلى نفور البعض بشعورهم بأنهم يتعرضون لمعاملات خاصة. فالبعض يرى أن هناك في الميثاق نوعا من الوصاية والتعامل الكولونيالي من الحكومة الفرنسية على الإسلام وهذا هو الإحساس لدى العديد من المسلمين.

 في الإطار ذاته وجهت انتقادات إلى مبادرة “ميثاق المبادئ” الجمهورية، مفادها أن الدولة الفرنسية ليست جادة في مسعاها لنها تعرف بشكل دقيق طبيعة الانقسامات بين الهيئات والمنظمات الإسلامية الفرنسية التي تحسب نفسها ممثلة لمسلمي البلاد. كما أنها تعرف معرفة جيدة أن في البلاد اليوم ما يقرب من 2500 مكان عبادة للمسلمين، وأن ألفًا منها بالكاد تدار من قبل الاتحادات التي تشكل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

وتدرك الدولة الفرنسية أيضا أن معظم المساجد الفرنسية تدار من قبل جمعيات مستقلة، لم يوقع أغلبها على هذا الميثاق. ويقول معظم مسؤولي هذه الجمعيات بأنه كان يجب أن يتم إشراكهم منذ البداية في النقاشات بخصوص هذا الميثاق. ويبدي البعض منهم انزعاجهم من هذه المعاملة معتبرين أنه “لم تتم معاملة أي دين بهذه الطريقة”. وعلى هذا المنوال تحدث إمام مسجد مدينة بوردو طارق إيبرو الذي اعتبر أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ما كان عليه أن ينتظر ضغط الحكومة حتى يلجأ إلى هذا الميثاق وأن هشاشة هذا المجلس جعلته يمضي على ميثاق لم يفكر فيه من قبل.

ويستبعد إمام مسجد بوردو أن يغير هذا الميثاق شيئاً، باعتبار أنه يبقى نصاً رمزيا ًفي مضمونه، لأن المسلمين يعيشون في المجتمع الفرنسي ولا يحتاجون إلى ميثاق من قبل مجلس لا يمثلهم في حقيقة الأمر. فالمسلمون محكومون بقوانين الدولة، وبالتالي سيبقى الميثاق في مستوى الرمزية. فالمشاكل التي يعيشها المسلمون في فرنسا تندرج ضمن أزمة الهوية التي نشهدها في العديد من المجتمعات.

نموذج يخدم الإسلام والمسلمين في الغرب؟

وعلى الرغم من كل هذه المآخذ، فإن المدافعين عن “ميثاق المبادئ” يرون أنه يمهد الطريق لإنشاء المجلس الوطني للأئمة الذي سيتولى الإشراف على عملية تكوين أئمة المساجد في فرنسا على أسس معرفية تُستقى من القيم والمبادئ التي يقوم عليها الإسلام السمح من ناحية وتلك التي يقوم عليها النظام الجمهوري الفرنسي من جهة أخرى. ويقول أصحاب هذا الطرح إن تشبع الأئمة الفرنسيين المقبلين بهذه المعارف سيجعلهم قادرين فعلا على القيام بمهامهم بشكل أفضل بكثير من كثير من الأئمة الحاليين الذين استقدمتهم فرنسا من الخارج عبر اتفاقيات أبرمتها أساسا مع الجزائر والمغرب وتركيا ولكنه اتضح أن كثيرين منهم ليست لديهم الحدود الدنيا من الإلمام بالحضارة والثقافة الفرنسيتين ولا بلغة فرنسا وتاريخها. كل ما في الأمر أنهم ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في إقامة وصاية غير مباشرة فرضت على مسلمي فرنسا من قبل بعض بلدان منشأ جزء منهم.

ولئن كان عدة مدافعين عن المبادرة يرون أن السياسيين سيستغلونها بشكل أو بآخر لأغراض انتخابية، فإنهم مقتنعون بـأنها قادرة إذا تبعتها مبادرات أخرى على الترويج في المستقبل لنموذج الإسلام الفرنسي في كثير من بلدان الغرب الأخرى انطلاقا من أنه ليس ثمة أي عائق يحول دون المسلم ودون ممارسة شعائره الدينية بحرية والعيش في مجتمعات تتعدد فيها الأديان ولكن دولة القانون هي التي تحدد واجباتهم وحقوقهم بشكل يقوم على مبادئ المساواة أيا تكن انتماءاتهم الدينية والعقائدية.

المصدر : القدس العربي

قد يعجبك ايضا