المغرب: مشاركون في “منتدى أصيلة” ينبهون إلى أزمة الديمقراطية الانتخابية ويركزون على المشاركة السياسية للمواطن
وهج 24 : حاول “منتدى أصيلة” في المغرب، على مدى يومي الأربعاء والخميس، ملامسة واقع الممارسة الديمقراطية في العالم، وعلاقتها بالتحولات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، حيث دعا المتحدثون إلى تعزيز الاهتمام بالمشاركة السياسية للمواطنين، حتى يسهموا في تعزيز قيم التنمية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وشهدت الجلسات مداخلات لشخصيات سياسية وخبراء مغاربة ودوليين، حيث اعتبر لويس أمادو، وزير خارجية البرتغال سابقا، الذي أدار الندوة، أن الديمقراطية تعيش حاليا أزمة وجودية، مرتبطة بأزمة الغرب وبالرأسمالية تحديدا. كما لفت الانتباه إلى تأثير جائحة “كورونا” في تكريس الشعور بالخوف من الآخر ومن المجهول وعدم الاستقرار، ملاحظا أن العالم يتوجه الى اقتصاد جديد وسياسة جديدة وشروط مغايرة الحياة، مما قد يؤدي إلى مصادمات بين مراكز القوى المختلف.
الانتخابات ليست وحدها ما يشكل الديمقراطية
في السياق نفسه، قال ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير الخارجية الإسباني السابق، وممثل الأمم المتحدة في “تحالف الحضارات” إن العالم يشهد تغيرا متواصلا لا سيما مع الجائحة. كما ألحّ على ضرورة الاهتمام بالمشاركة السياسية للمواطنين، وليس فقط من خلال التصويت، علاوة على إعطاء الحرية للمواطن من أجل تقييم السياسات واستبعاد الرأسمالية الموجهة. كما اعتبر أن الانتخابات ليست وحدها ما يشكل الديمقراطية. ودعا إلى التصدي “للشمولية الأيديولوجية” و”الشمولية التكنولوجية”.
وسجل وجود مفارقة بين نموذج الحزب الواحد والنظام الديمقراطي، ملاحظا أن الصين كبلد الحزب الواحد استطاع مواجهة الجائحة، بخلاف البلدان الديمقراطية التي كان الضغط عليها قويا من طرف المواطنين، عبر بروز حركات بمطالب اجتماعية وحقوقية.
أما نبيل بن عبد الله، أمين عام حزب “التقدم والاشتراكية” المعارض في المغرب، فتطرق بدوره إلى أزمة الديمقراطية الانتخابية وأزمة المشاركة السياسية.
وتوقف عند نوع آخر من التمثيلية، بموازاة مع التمثيلية الانتخابية، وهي ما أسماه “التمثيلية المباشرة” التي تجري بدون مؤسسات وسيطة، وتتمثل في شبكات التواصل الاجتماعية، محذرا من عواقب بعض مضامينها، لما قد تمثله من خطر، عبر نشر أفكار شعبوية أو مواقف متطرفة.
وأبرز أيضا الحاجة إلى ديمقراطية انتخابية، بعد مراجعتها، لتجعل الناخبين يفكرون بشكل إيجابي ويقدمون اقتراحات عبر المنتخبين، وليس فقط عبر “التمثيلية المباشرة” التي تكتفي بالشكوى والاستنكار وأحيانا المس بالكرامة البشرية وإلغاء الآخر.
كما شدد على ربط الديمقراطية الانتخابية بحقوق الإنسان ومبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومنح الثقة للمواطنين في المؤسسات التي ينبغي أن تكون مبنية على قواعد الشفافية والحوكمة.
المصطفى حجازي، الأكاديمي والمستشار السياسي السابق لدى رئاسة الجمهورية المصرية، أشار إلى ارتباط الربيع العربي بحركات احتجاج عالمية، لافتا الانتباه إلى سقوط عصر الصناعة. وتناول ظهور سلطة لدى الناس، لكنها قوبلت بالتجاهل، بينما كان يلزم “مأسستها”.
كما ذكر أن الديمقراطية اختُزلت في صناديق الاقتراع، فاستفاد منها المستبدون، إذ تحولت الديمقراطية التمثيلية إلى “ديمقراطية ممسرحة”، بتعبيره.
بدوره، اعتبر الأكاديمي المغربي إدريس الكراوي أن الديمقراطية تعيش اليوم في خطر، وأنها وصلت إلى النفق المسدود، مؤكدا أن دور الفاعل تحديد عوامل التي تهدد الديمقراطية، والمتمثلة في الارتباط بين عالم السياسة وعالم الأعمال، والطلاق بين النخبة والمواطن، علاوة على كون السياسة لم تعد فضاء لحاملي المشاريع، وإنما سياسة استعراضية ورأسمال تجاري.
وتطرق كذلك إلى التطور الرقمي وتأثيره على الرأي العام والقوى السياسية، مسجلا أن من بين التهديدات الأخرى التي تواجه الديمقراطية: صعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد، وتنامي الأصولويات، وأزمة ثقة المواطنين في المؤسسات.
كما تحدث عن الحاجة إلى نخب جديدة لتشكيل ملامح حلم جديد يمكن أن يتحرك فيه كل القوى الحية في المجتمع، معتبرا أن النخب القديمة لم تعد قادرة على إنتاج الأفكار.
كما أكد أن مجتمعات العالم بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة من أجل إعادة اكتشاف الديمقراطية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والرقمية والسياسية، والتركيز على المواطنة وكرامة الانسان وقيمته.
ودعا إلى تعميق النقاش العمومي حول الديمقراطية وتحديات التحولات المستقبلية، الطاقية والمناخية والبيئية والرقمية وغيرها.
الضيق من الديمقراطية
وافتتحت جلسات الندوة بمداخلة لمحمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة “منتدى أصيلة”، أشار فيها إلى أن الموضوع المطروح يشكل الشاغل المركزي للفاعلين والمحللين السياسيين والأكاديميين المختصين، سواء في المجتمعات العريقة، أو الحديثة العهد بالديمقراطية.
وأضاف أن الموضوع يشكل مصدر اهتمام وقلق حتى لدى أولئك الذين ينبذون الديمقراطية ولا يؤمنون بجدواها، إلى حد تنامي ظاهرة ما يسمى بـ”الشعور بالضيق من الديمقراطية”.
وأفاد أن الشعور الرافض أو المشكك في الديمقراطية تزامن مع منتصف العقد الأول من القرن الحالي، متأثرا بالأزمات المالية والاقتصادية المتتالية، وكثرة فضائح الفساد وتوالي الأزمات السياسية، ما ساعد على عدم الرضى لدى العموم.
وأشار إلى أن التحولات الاستراتيجية الاستثنائية أدت إلى تراجع المسلمات القديمة التي طالما ربطت بين استقرار الديمقراطية وازدهار الاقتصاد الرأسمالي، بينما يلاحظ اليوم العكس، أي إن الازدهار ساهم في تقوية النظم الاستبدادية المستندة على الحزب الواحد.
تناقضات السياسة
في السياق نفسه، قال عبد اللطيف وهبي، وزير العدل المغربي، إن شكوكا قوية أصبحت تحوم حول الديمقراطية، سواء داخل الديمقراطيات العتيدة أو داخل المجتمعات النامية، وأضاف: “في المجتمعات الغربية جاءت الدينامية التي تشهدها الرأسمالية كأهم تهديد يحدق بالديمقراطية، فتحولات عالم الشغل وسيطرة المضاربات المالية على الاقتصاد أفضت إلى تنام مهول للامساواة في المداخيل. كما أن المكننة القوية التي انتشرت داخل المقاولات أدت إلى تدمير العديد من المهن، مما أدخل قطاعات واسعة من الأفراد في وضعية البطالة والهشاشة والفقر، وأصبحت أغلبية المجتمعات الغربية لا تضم سوى الأغنياء جدا والفقراء، الشيء الذي جعل من الصعوبة تحقيق توافقات بين مصالح متضاربة جدا”.
واستنتج أن هذه الوضعية أدت إلى انتشار شعور لدى المجتمعات الغربية بعدم جدوى التصويت في الاستحقاقات الانتخابية، خاصة وأن الطريقة التي جرت بها معالجة أزمة 2007/ 2008 في الولايات المتحدة الأمريكية عمقت الإحساس عند شعوب العالم بأن الديمقراطية قد تم استعمالها لفائدة المصالح الاقتصادية للشركات العالمية الكبرى.
واستطرد الوزير المغربي قائلا إنه في المجتمعات النامية تبدو الديمقراطية الانتخابية غير قادرة على استقطاب عموم المواطنات والمواطنين، وأرجع الأمر إلى تناقض السياسة داخل تلك المجتمعات بين اتجاه لا يعمل سوى على الاستجابة للمقتضيات الاقتصادية للعولمة، دون اعتبار للخصوصيات التاريخية للمجتمعات غير الغربية، واتجاه ينغمس في تمجيد هذه الخصوصيات دون اعتبار للتحولات الثقافية والتاريخية التي تمليها عملية التحديث.
ورصد مظاهر أزمة الديمقراطية التي تسود المجتمعات العصرية، وأولها أزمة الأحزاب السياسية، باعتبارها لم تعد قادرة على تحديد بالضبط من تمثله داخل عملها السياسي وداخل المؤسسات، فالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها دينامية الاقتصاد المعوْلم مسحت العديد من الحدود بين الفئات الاجتماعية، وغيرت من مواقعها وسلوكاتها ومصالحها، وبالتالي صار من الصعب على الخطاب السياسي أن يعكس هذه المصالح أو تلك بالوضوح الفكري والإيديولوجي الذي عرفه الخطاب السياسي للقرن التاسع عشر.
وأوضح عبد اللطيف وهبي أنه يمكن تفسير الأسباب التي تقود إلى إنتاج أزمة الديمقراطية الانتخابية بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي خلقتها الثورة الصناعية. وأضاف أن انفتاح المجال الاجتماعي على تبادلات بسبب انتشار التعليم والتكوين وتسارع التغييرات في الشغل خاصة مع غلبة القطاع الخدماتي ودخول النساء إلى الحياة المهنية، كل هذا أدى إلى تغيير مجال التربية والعائلة والتدين، وأفرز تراجع سلطة الأطر الثقافية التقليدية في مراقبة المجتمع والأخلاق والأفكار.
متشائمون ومتفائلون
وتابع قائلا: “في المجال السياسي نجد أن تراجع السيادة الوطنية للدول أمام تأثيرات العولمة الاقتصادية قد أضر كثيرا بالديمقراطية الانتخابية. وأصبحت المؤسسات السياسية عاجزة على معالجة كل المشاكل المطروحة داخل المجتمع، إذ أن مجموع العناصر التي تشكل السياسة الاقتصادية لم تعد تحت سيطرة الدولة (تقلبات الدولار، تغير أسعار الطاقة، تنقل رؤوس الأموال…) وأصبحنا أمام أحزاب إما أنها تقتصر على تدبير مقتضيات العولمة الاقتصادية، أو تنطوي على الخصوصيات الثقافية والدينية دون مجهود سياسي. وفي كلا الحالتين فإن التمثيلية الديمقراطية الانتخابية للمؤسسات هي التي تتراجع”.
ولاحظ أن مستقبل الديمقراطية التمثيلية في المجتمعات الحديثة تتوزعه نظرتان، واحدة متفائلة وأخرى متشائمة. وشرح ذلك بالقول: “أصحاب النظرة المتفائلة يرون في انتشار وتعميم التعليم والتربية ونمو مستوى الوعي الحديث لدى العموم، سوف ينتهي بفرض إرادة الديمقراطية التمثيلية، ويجدد المؤسسات ويفتح آفاقا جديدة أمام الديمقراطية الانتخابية وتحريرها من سيطرة المال. أما أصحاب النظرة المتشائمة فيعتقدون أن تكنولوجيا المراقبة والسيطرة التي تعرف تطورا من قبل الدول أو من قبل الشركات الكبرى الخاصة على حد سواء، تقود إلى انفصال حاد بين الرأسمالية التي لا تكف عن السيطرة وبين الديمقراطية الانتخابية كتجربة للحرية والتعددية التي ما فتئت تنكمش أمام التيارات الشعبوية وثقافة الاستهلاك.
وأعرب الوزير المغربي في الأخير عن اعتقاده بأنه بين أصحاب النظرة المتفائلة وأصحاب النظرة المتشائمة، يجب علينا أن نحتفظ بمساحات الأمل في غد ديمقراطي انتخابي مشرق، تعود فيه الثقافة والديمقراطية الانتخابية إلى أصلها وروحها العميقة، بعد نهاية إغراءات ثقافة وديمقراطية الوجبات الجاهزة.
المصدر : القدس العربي