ياسَمِينُ الشَّامِ يستَمِعُ

ميَّادة مهنَّا سليمان….

 

كُنتُ بِدايةَ الأسبوعِ الماضي أقرأ روايةَ غابرييل غارسيا ماركيز (قِصَّةُ موتٍ مُعلَن)، ولعلَّها مصادفةٌ أنْ يحدثَ الزِّلزالُ ثاني يومٍ لقراءةِ تلك الرِّوايةِ، فعزفتُ عن قراءتها بسببِ فقدانِ شهيَّةٍ أصابني لكُلِّ شيءٍ مِن حولي، فالوجعُ كبيرٌ أكبرُ من جغرافيَّةِ الكونِ.
لفتَ نظريَ العنوانُ، وشعرتُ أنَّنا كسوريِّينَ نعيشُ يوميًّا قصَّةَ موتٍ مُعلَنٍ، وقرَّرتُ أنْ أعودَ لقراءةِ الرِّوايةِ، ثمَّ قارنتُ بينَنا، وبينَ بطلِ الرِّوايةِ (سانتييغو نصَّار) الّذي كانَ يعلمُ أهلُ قريتهِ بأنَّهُ سيُقتلُ على يدِ الأخوينِ (فيكاريو) ولم يفعلوا شيئًا لأجلهِ، حتّى ماتَ طعنًا بِالسَّكاكينِ.
وها نحنُ الآنَ.. الجميعُ يرى ما يحدثُ معنا، محاولاتٌ قليلةٌ لإنقاذِنا، لكنَّ الموتَ لا ينتظرُ أحدًا حتَّى يتحرَّكَ، أو يبادرَ، أو يساعدَ.
صمتٌ رهيبٌ إزاءَ ما يجري وما جرى، وألمٌ كبيرٌ أن ترى المساعداتِ والجسورَ تمتدُّ لتنتشلَ ابنَ بلدٍ آخرَ، ورغمَ أنَّنا إنسانيُّونَ نفرحُ لنجاةِ أيِّ بشريٍّ بغضِّ النَّظرِ عن دينهِ وبلدهِ وعِرقهِ، لكنْ (اشعروا قليلًا بِنا)!
ألَمٌ لا تتَّسعُ لهُ سماءٌ أن ترى ابنَ بلدِكَ مازالَ تحتَ رحمةِ الله، والوسائلِ البدائيَّةِ للحفرِ، ومَن لم يمتْ بالأنقاضِ، ربَّما ماتَ بسببِ تأخُّرِ النَّجدةِ والاختناقِ، أوالنَّزفِ أوالعطشِ والجوعِ.
كارثةٌ كبيرةٌ حلَّت في ظروفٍ عصيبةٍ تعيشُها سوريةُ، فازدادَ اشتعالُ نارِ المآسي وعظُمت، ومن المؤلمِ أنَّنا بِتنا نوثِّقُ لحظاتِنا بتاريخٍ قاسٍ جديدٍ، فباتت أحاديثُنا تحدّدُ الزّمنَ الحياتيَّ بِ: (قبلَ الزٍّلزالِ بيومٍ، قبلَ الزِّلزالِ بِساعةٍ، أو بعدَ الزّلزالِ بساعتينِ، بعدَ الزِّلزالِ بثلاثةِ أيَّامٍ….)
وغيرُها الكثيرُ ممّا يأسى لهُ القلبُ، وينفطرُ.
سنواتٌ عديدةٌ والسُّوريُّ يحاربُ..
يحاربُ وقتَ الحربِ وبعدَ الحربِ
الفقرُ حربٌ.. الغلاءُ حربٌ.. انعدامُ أبسطِ حقوقِ المواطنِ وحدَها أشرسُ حربٍ.
كلُّ ذلك والسُّوريُّ الشَّريفُ صامدٌ في وطنِه، والمضحكُ أنْ يأتيَكَ بعدَها كاتبُ مقالاتٍ محسوبٌ أنَّهُ ابنُ البلدِ، ويتساءلُ نافثًا نيرانَ الفتنةِ:
“هل يستطيع السُّوريُّ أنْ يبدعَ مِن غيرِ وجودِ كهرباء؟”
وأنا أقولُ لهُ، ولأمثالهِ بائعي الضَّمائرِ والأوطانِ:
السُّوريُّ معجزةٌ، السُّوريُّ لعنةٌ على مَن آذاهُ، السُّوريُّ قادرٌ بقدرةِ اللهِ، وأنا واحدةٌ من السُّوريِّينَ الَّذين لم يتأثَّرْ إبداعُهم بانقطاعِ الكهرباءِ، وقلَّةِ المازوتِ، وزيادةِ الغلاءِ؛ المبدعُ مبدعٌ حيثما حلَّ، وأينَما نشَأَ، وأقامَ!
ولقدْ حرصتُ على نشرِ ما أبدعتُه خلالَ عامٍ، والأعوامِ الماضيةِ ولمْ تكنْ أقلَّ مِن أعوامِ ما قبلَ الحربِ، بلْ أكثرَ وللهِ الحمدُ!
الزِّلزالُ أيُّها البائعُ وطنَكَ ليسَ هُنا في بُقعةٍ جغرافيَّةٍ مِن بلدي، الزِّلزالُ الكارثيُّ في عقلِكَ، وفي عقولِ كثيرينَ، في قلوبِهم، في أرواحِهم، وفي أخلاقِهم!
ومن المؤسفِ أنَّ هؤلاءِ المنكوبينَ عقليًّا، وخُلُقيًّا، وروحيًّا، لا مساعداتٍ قادرةً على إنقاذِهم من تحتِ أنقاضِ الجهلِ، والغباءِ، والحقدِ!
أمّا هُنا على الأرض.. فالزِّلزالُ رغمَ أنَّهُ فتَّتَ قلوبَنا لكنَّهُ كانَ مرايا جَمالٍ من نوعٍ آخر، هذا الجمالُ لا يراهُ المشوَّهونَ ولا عميانُ القلوبِ، هذا الجَمالُ يراهُ فقط الأنقياءُ والأصفياءُ والأطهارُ.
وهنا لا بُدَّ مِن أنْ أتحدَّثَ عن حالاتٍ غريبةٍ ومتناقضةٍ رأيتُها مِن ثقوبِ جدارِ هذهِ المحنةِ:
– أشخاصٌ يتفانونَ في العملِ، يعملونَ بزنودِهم، وقلوبِهم من أجلِ رفعِ الأنقاضِ عن المتضرِّرينَ، وإسعافِهم، وطمأنتِهم.
– أشخاصٌ لديهم سيَّارات تنقلُ المُصابينَ، أو تساهمُ في رفعِ الأنقاضِ، يناشدونَ فقط من يمدُّهم بالوقودِ، ولو دفعوا هُم ثمنَه!
– أشخاصٌ يتبرَّعون بجزءٍ مِن قُوت يومِهم، أو مؤونةِ منازلهِم، أو ثيابِ أولادِهم بلا ادِّعاءٍ، أو رياءٍ، أو صورِ شهرةٍ!
أشخاصٌ يحاولونَ التَّبرُّعَ وكأنَّنا في مزادٍ:
– أنا سأدفعُ أكثرَ مِن غيري!
– انظروا إليَّ لقد تبرَّعتُ!
– سأكونُ في الموعدِ المحدَّد لحفلتي، لكنّ الأجرَ أتبرَّعُ به للمتضرِّرينَ!
– إطلالتي في حلقةِ البرنامجِ هي مواساةٌ للمتضرِّرينَ، ألمْ ترَوني ظهرتُ بفستانٍ أسودَ حدادًا!
– أشخاصٌ يسرقونَ ما يأتي للمتضرِّرينَ، بعضُهم ينتقي ما يعجبهُ مِن ثيابٍ لأولادهِ، أو أقاربِه، وبعضُهم يخُصُّ نفسَه بموادَّ غذائيَّةٍ ليبيعَها، أو يأكلَها، وبعضُهم يقاسمُ مَن شاكلَهُ أموالَ المنكوبين.
– أشخاصٌ كالبالوناتِ ملؤوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس بأنفسِهم ونجاحاتِهم الخُلبيَّةِ، وفجاةً تلاشُوا وصغُروا في أعيُنِ أنفسِهم حيثُ عرَفوا أنَّ الله حقٌّ، وأنَّ الحياةَ الدُّنيا الَّتي يسيلُ لُعابهم عليها، لا شيءَ سِوى الفناءِ بلحظةٍ إنْ أرادَ الله.
– أشخاصٌ كانوا قبلَ الزِّلزال مُتغطرسينَ، فاقِدي الحسِّ الإنسانيِّ، وفجأةً هبطتْ عليهم الرَّحمةُ والإنسانيَّةُ، خوفًا ورهبةً ممّا رأَوه مِن رعبٍ ودمارٍ وروائحَ موتٍ، ولكنْ هؤلاءِ عِبرتُهم لا تدومُ طويلًا، فبعدَ أنْ تمرَّ المحنةُ سيعودونَ إلى حقيقتِهم، وإلى تجبُّرِهم وطُغيانِهم وسُخف أفكارِهم.
– أشخاصٌ استغلُّوا الظَّرفَ الرَّاهنَ، ليزيدوا عددَ مُعجبي ومُتابعي صفحاتِهم، ينشرونَ، ويطلبونَ مِن الآخرِينَ المشاركةَ على أوسعِ نطاقٍ!
– أشخاصٌ واتتهُمُ الفرصةُ ليدَّعوا حبَّ وطنٍ باعوهُ، فهبطَ الحِسُّ الوطنيُّ الكبيرُ، وتتالتِ المنشوراتُ، والخُطَب الرَّنَّانةُ، والمواعظُ والمزاعمُ والأكاذيبُ، كلُّ ذلكَ وياسمينُ الشَّامِ يرى، ويستمعُ للجميعِ ضاحكًا، قائلًا بِسُخريةٍ:
عِطري سينتشِرُ رُغمَ أكاذيبِكُم!
عِطري سيَضوعُ رُغمَ أنوفِ أسيادِكُم.
عِطري حَقيقةٌ، وأنتمْ سَرابٌ.

ميَّادة مهنَّا سليمان
2023/2/10

قد يعجبك ايضا