الشهادة… الفن الذي أتقنه حزب الله

بثينة عليق….

 

كما أن الحزب يَعُدّ الشهادةَ أحدَ أسلحته النوعية ذات الفعالية الفائقة، والتي كسب من خلالها شعبية وصدقية كبيرتين، مع إصرار على عدم السماح للعدو أو للخصوم بتحويلها إلى نقطة ضعف أو وسيلة تُستخدم في ليّ ذراع أبرز حركات المقاومة.

يروي الصحافي الراحل طلال سلمان أن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، روى له، خلال جلسة معه في 27 حزيران/يونيو 1998، في أثناء انتظار وصول موكب “الشهداء العائدين” في أكفان، وبينهم جثمان نجله البكر الشهيد هادي، الذي ارتقى في أرض المعركة، وذلك بعد نجاح عملية تبادل مع العدو الإسرائيلي، أنه تبلّغ نبأ استشهاد هادي وثلاثة من رفاقه يوم الجمعة، وكان ثمة احتفال جماهيري ضخم لدعم المقاومة في اليوم التالي السبت.

وكان البرنامج أن يبدأ الاحتفال بمجلس عزاء. قال السيد نصر الله لطلال سلمان: “حاولت أن أتدخل لتعديل البرنامج عبر إلغاء مجلس العزاء، حتى لا يفترض البعض أنه أقيم بصورة خاصة من أجل هادي ورفاقه، فليست هذه طريقة ملائمة لاستقبال الشهداء”.

وأضاف السيد نصر الله: “الشهيد لا يُبكى، بل هو المثال والقدوة ومصدر العزة. وكان عليّ أن أخطب بعد مجلس العزاء. وحين وقفت فوق المنبر، واجهتني عشرات الكاميرات التلفزيونية بالمصابيح الكهربائية هائلة الطاقة.

كان الحرّ فوق الاحتمال، وخصوصاً أن هذه المولدات تبثّ حرارة شديدة، بالإضافة إلى أنها تضايق البصر، ولاسيما بالنسبة إلى من يستخدم النظارات مثلي. بدأت خطابي كالمعتاد في مناسبات كهذه.

وفي لحظة معينة، شعرت بأنني لم أعد أرى، إذ كان العرَق ينهمر على وجهي غزيراً ويغطي زجاجتي النظارة. هممتُ بأن أمد يدي إلى علبة المحارم على الطاولة أمامي كي أمسح عرقي، لكنني فكرت في أن بين هذه التلفزيونات التي تنقل الحفل من هو أجنبي الهوية، وربما يبيع بعضها إنتاجه لـ”إسرائيل”، وسيفترض الجميع أنني أمسح دمعي لا عرقي إذا أخذت منديلاً ومررته على وجهي.

جمدت يدي، وفضّلت أن أسبح بعرقي على أن أعطي العدو صورة الأب المفجوع يقف على المنبر باكياً ابنه، بينما يدعو الآخرين إلى الشهادة. ما أنا سوى واحد من أهل الشهداء”.

تختصر هذه الرواية كثيراً من الأبعاد التي تكتنزها الشهادة لدى حزب الله. فالشهادة فكرة مركزية لديه، طبعت مسيرته وحدّدت مفاصل تاريخية فيها.

كما أن الحزب يَعُدّ الشهادةَ أحدَ أسلحته النوعية ذات الفعالية الفائقة، والتي كسب من خلالها شعبية وصدقية كبيرتين، مع إصرار على عدم السماح للعدو أو للخصوم بتحويلها إلى نقطة ضعف أو وسيلة تُستخدم في ليّ ذراع أبرز حركات المقاومة لـ”إسرائيل” في المنطقة، مع التذكير بأن استهداف الحزب من جانب أعدائه وخصومه لم يوفر هذه المسألة. لقد تم وضعها تحت شعار” ثقافة الموت”، والذي استُخدم بكثافة في الدعاية المضادة للحزب.

هذه الأبعاد تحضر في أدبيات حزب الله، وعلى ألسنة كبار مسؤوليه ومنظّريه بصورة مكثفة. السيد نصر الله، مثلاً، استخدم كلمة “الشهادة” 900 مرة في خطاباته بين عامَي 2000 و2006، وفق ما ورد في كتاب أحمد ماجد، “خطاب نصر الله”. كما أنه أَولى المفهوم أهمية كبيرة في خطاباته، التي لا يخلو أحدها من توضيح وشرح لهذا المفهوم وكل المتعلقات به.

يقول السيد نصر الله، في أحد خطاباته: “في مسيرتنا شهداء، وفي قادتنا شهداء، نستطيع أن نستمر بفيضهم، بأرواحهم المعطاءة، بوصاياهم، بابتساماتهم، بأصواتهم التي ما زالت تتردد في آذاننا”. ويضيف أن “السلاح الذي نملكه هو أننا في لبنان نملك رجالاً حاضرين للشهادة، ونساءً حاضرات للشهادة، يعشقون الشهادة”.

ويقول في خطاب آخر: “إن قوة المقاتل وتفوقه لا يرجعان إلى نوع السلاح الذي يحمله، بقدر ما يرجعان إلى إرادته وإقباله على الموت”.

ويؤكد الأمين العام لحزب الله أهمية امتلاك مفهوم الاستشهاد في عقل الحزب وفكره، كسلاح يساعد الإنسان الملتزم على تحدي الصعاب: “المطلوب عندما نكون عشاق شهادة، أن نحمل روح الاستشهاد؛ أن نكون طلاب شهادة وعشاق شهادة. أن نَمضي شهداء، أو لا نَمضي شهداء، هذا أمر في يد الله، سبحانه وتعالى، لكنّ المطلوب منا أن نمشي في هذا الدرب”.

علاقة الحزب بالشهادة حضرت أيضاً في معظم الكتب التي صدرت عن حزب الله. كتاب “حزب الله السياسة والدين”، لأمل سعد، والصادر باللغة الإنكليزية، أحدها.

قالت الكاتبة إن “فكرة الاستشهاد مركزية لدى حزب الله، وإنها جزء لا يتجزأ من تصور حزب الله للجهاد”. وتضيف أن الحزب يَعُدّ الاستشهاد “ميزة تميزه من العدو الإسرائيلي، وسلاحاً لا يمتلكه الجندي الإسرائيلي، الذي قد يكون في تصرفه اسلحة متقدمة، لكنه لا يمتلك هذه الإرادة ما دام يُقْدِم على القتال، غير أنه لا يريد أن يموت، الأمر الذي يجعله أدنى مستوى من رجل المقاومة”.

كما أولى حزب الله هذه الميزة وهذا السلاح أهمية كبرى في إعداده محازبيه. يتحدث حسين عبد الرضا، في كتابه ” التربية الحزبية الإسلامية: حزب الله نموذجاً”، عن ثقافة الاستشهاد لدى حزب الله.

ويشير إلى معادلة لطالما تبناها حزب الله، وهي انتصار الدم على السيف. ويلفت إلى أن الشهادة في المفهوم التربوي لدى حزب الله هي “حالة تضحية وتفانٍ وارتقاء إلى الملكوت الأعلى، حيث يذوب الفرد بالفكر وبالقضية وبالهدف”.

ويؤكد الكاتب أن “تربية الاستشهاد” هي السلاح الأول الذي أنزله حزب الله إلى ميدان القتال، وأن هذا السلاح يمتلك خصائص ومميزات تُحدث تأثيرات فعالة في الجهتين: جهة المقاومة وجهة عدوها، وأنه رافق مسيرة الحزب ولا يزال، وتحوّل إلى ظاهرة مجتمعية خاصة به، والى جزء لا يتجزأ من قواعد الممارسة السياسية للحزب”.

وإذا كان لمفهوم الاستشهاد أثر مهم في تحقيق أهداف حزب الله، وفي عملية جذب الحزبيين وتربيتهم، فإنه، في المقابل، تحوّل إلى مكمن يتم التصويب عليه من خلاله.

لقد شهدت الساحة اللبنانية حملات دعاية مكثفة ومكرَّرة ضد حزب الله من خلال ربط الاستشهاد بثقافة الموت، أبرزها حملة “أحب الحياة”، التي شُنت ضد الحزب في عام 2005، وكلفت نحو مليون ونصف مليون دولار، وسُخِّرت من أجل نشرها الشاشات والصحف والأقلام. وذهب حازم صاغية إلى القول في إحدى مقالاته إن “كل المناطق، التي يسيطر عليها حزب الله، تحكمها بصورة كبيرة ثقافة الموت والشهادة”.

الا أن الوقائع تُظهر أن قدرة التأثير بقيت محدودة جداً، نتيجة مجموعة من الأسباب، أبرزها وأكثرها فعالية هو أن أدبيات الحزب تخطت التنظير إلى التجسيد الواقعي من خلال استشهاد قادة الحزب وأبنائهم، على مر تاريخه، الأمر الذي أكسبه صدقية كبرى.

فعلى عكس ما كان سائداً في كثير من الحركات السياسية في العالم العربي، حيث يتمتع المسؤولون فيها وأفراد عائلاتهم بالامتيازات، في حين يتجند أولاد المناصرين في المعارك والحروب، ويتم الزجّ بهم في أماكن الخطر، قدم حزب الله قادته شهداء، بدءاً بأمينه العام السابق، السيد عباس الموسوي، الذي استُشهد مع زوجته وابنه، وقبله أحد القادة المؤسِّسين الشيخ راغب حرب، وبعدهما القائد الجهادي الأبرز عماد مغنية، كما استُشهد أبناء المسؤولين، وأبرزهم ابن الأمين العام السيد حسن نصر الله في الخطوط الأمامية قبل تحرير الجنوب، ومؤخراً ابن رئيس كتلة حزب الله النيابية، وعضو شورى حزب الله، محمد رعد.

في كل هذه الحالات، شكلت هذه الشهادات محطة مفصلية في تاريخ الحزب، أدّت إلى توسع شعبيته داخل البيئات الشيعية واللبنانية والعربية، وازدادت القناعة بأن الدم الذي يُسفَك له أثر في تاريخ هذه الأمة، وفي الأجيال الآتية في المستقبل، وفي حركة التغيير الكبرى في العالم، وأن هذا الدم هو الذي سيصنع كل هذا التاريخ.

وإن الشهادة، كما قال الفيلسوف علي شريعتي، هي “فن الموت الذي أتقنه الأبطال وحدهم، واستقبلوه بلا تردد وبتصميم تام، واطمأنوا إلى نتائجه”.

المصدر : الميادين

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.