بوابة في أصفهان

حيدر المحسن  …..

 

المدينة التي لا تتعذب لرؤيتها فإنك لا تكاد تراها، ليست المدينة الفاضلة مثلما كان يحلم الإفلاطونيّون والشيوعيّون، لكنها تلك البلدة البسيطة، وإن كانت قديمة للغاية، فأنت تلمس فيها عن كثب حبّ الناس للحياة، والأشياء البسيطة التي تُنسيهم الموت. ومثلما تحاول المرأة التقرّب إلى الرجل بواسطة أحسن ما تمتلك، جلست مدينة أصفهان عند مقعدي لمّا زرتها في هذه السنة، وراحت تحدّثني عن تطاول وتكاثف أشجار التوت فيها، وعن مبانيها القديمة. قالت لي:
– عندما تدخلني أتمنّى أن تنسى أعرافك في الخارج، وأوّلها التحنان والشوق إلى بلدك.
كلّ شيء يجعلنا نتخلّى عن ذواتنا هو سلبي، لكنّ ما تُريدك أن تتعلّمه أصفهان يمكن اختصاره بكلمتين: «سحر الشرق»، وهذا بيّنٌ فيها من جهة الطبيعة، والمناخ النفسي للناس، وطريقة عيشهم. لا أجد حرجا في قول ذلك، رغم أني أنحدر من بلد مجاور لإيران، لكني أستطيع الجزم أن بمقدوري نفي صفة الشرق عنه. إن ما يربطنا إلى الوطن هي الأرض حتما، وقد صار التعرّف على بلد الرافدين صعبا في الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة. أن تولد في العراق في هذا الزمان، وأنت محاط ببلدان تحاول النيل منه، فإنك تشعر في بعض الأوقات بأنك عديم الجنسية على نحو ما.
لا توجد شوارع في أصفهان، وإنما دروبٌ مظلّلة بالشجر يختال السائرون بينها، وفي أماكن تتكاثف الظلال المتشابكة وتكوّن نوعا من الظلام. ثمة ساقية وسط الشارع المسمّى «أربع حدائق» مصدرها عيون المياه في الجبال القريبة. هل هي الجنّة تجري من تحتها الأنهار، وهذا البهاء في الحبّ السماويّ يجرّبه البشر الفانون، وأنا واحد منهم؟ لهذا السبب رحتُ أهيم في شوارعها في الليل والنهار، أحسّ بنبض المدينة وحميميّتها في راحتيّ مثل قلب إحدى «فخاتيها» التي لا أدري كيف وقعت في يدي من غصن على الشجرة، وأتملّى كذلك ظلال الشمس والقمر تُسقطها أشجار التوت على الوجوه، فتتشرّب بلون ثمرها الأحمر والأصفر والقرمزي، فهي في الأخير وجه واحد، وإن اختلفت السحنات. هنالك لدى البعض ملامح فيها شيء هنديّ وصينيّ وأفغانيّ.. لكن الدماء التي تجري في العروق واحدة، وهي ليست شرق أوسطيّة حتما، إنما فيها شيء من رائحة رافدينيّة وخليجيّة. النساء قصيرات القامة، مثل نساء بلدي، وهذا دليل آخر على أن البطون التي أنجبت الشعب في البلدان المتجاورة الثلاثة، بلاد الرافدين وبلاد فارس والخليج، واحدة. من القائل: «الجغرافية تنتصر على التاريخ»؟ على الأغلب هو ناسخ هذه السطور، وترتفع العبارة بصدقها على الحكمة الشهيرة: «التاريخ جغرافية متحركة». يختلف رجال السياسة (ملوك هذا الزمان) دائما في الرأي، لكنهم يتفقون في تجاهل حقائق الحياة. والأمر برمّته لا يمسّ في الأخير السمكةَ والسنّور والنحلة، وكذلك الأشجار التي تعيش في البلدين، كثيرا. قد يتأثّر بسبب الحرب طعامي، أنا الوردة في أصفهان، يفوق أو يقلّ عن غذاء زهرة تشبهني وتعيش في ميسان ـ بلدتي العمارة اسمها في الخرائط المتداولة الآن ميسان ـ ولا يتعدّى الأمر ذلك. عندما يعود الهواء والماء إلى سابق عهديهما، تتشابه الزهرتان تماما، فلا فرق بين هذه وتلك.
المدينة التي تزورها سائحا تقدّم لك زينتها الظاهرة في الأيام الأولى، وشيئا فشيئا تكون قريبا بما فيه الكفاية من زينتها الباطنة، عليها تقوم سعادة الإنسان، وبقيّة الكائنات التي تتوطنها. ولغرض اكتشاف هذه الزينة كاملة كنتُ أرغبُ في المكوث لوقت أطول في أصفهان، أو أعود إليها ثانيةً، فجمالها يستحق أن يُفهم بصورة جليّة، مع الرقة والحلاوة في اللغة الفارسيّة، تدغدغ ألْسِنةَ صباياها كأنهنّ خبّأنَ تمرا بين شفاههنّ. العلاقة بين الإنسان والمدينة تتصادى مع علاقتها مع الطبيعة، على هذا الأساس يتمّ تصميم المدن العظيمة. تماشيا مع الأشجار ذات اللونين أو الثلاثة (الجوزي والأخضر زائدا لون الثمر) اتخذ فنّ العمارة هنا غرارا واحدا. ثوبٌ واحد ترتديه المباني دون تكلّف، منذ العصر الصفويّ، مرورا بالعهد القاجاري والبهلوي، إلى الزمان الحديث. اللون السائد هو ما يعكسه الطابوق تحت ضوء الشمس، يزيد الأشجار وبقيّة النباتات اخضرارا وحميّا، ويُعطي الحياة أصالة تؤدي دورا مهما في بناء الصدق الداخلي للنفس، الذي يجب أن يشعر به ناسها. هل انتقل هذا الصدق إليّ أو إلى غيري من الزائرين؟ في البلاد التي ودّعت ماضيها إلى الأبد، لأن انفجارا عمرانيّا أدخلها في عصر الحداثة، تؤدي مشاهدة الأبراج والمباني الشاهقة ذات الواجهات الزجاج إلى ملل قاتل، بل إنه أسوأ، ربما يعود السبب إلى غياب العنصر البشري فيها، والفرح المصاحب لكلّ ممارسة عمليّة، أو لأنها مدن فقدت شخصيّتها التاريخيّة والوطنيّة بواسطة هذا البركان الشكلانيّ الذي ثار، ولا تستطيع قوّةٌ مهما بلغت أن توقفه. لقد أتى على كلّ ما هو جميل وساحر ومن صنع أبناء المدينة، وهذه في الحقيقة عبارة عن تكتّلات لشركات مندمجة ضخمة وتجمعات لأصحاب رؤوس أموال تتكاثر، ولا يوجد فعل حياتيّ فيها غير هذا التكاثر.
يتوسط إحدى ساحات أصفهان تمثال من البرونز يخلد البنّاء الإيرانيّ الماهر، زرع في أحياء المدينة مباهج القرون الوسطى في فنّ العمارة، بالإضافة إلى عطايا المباني الحديثة البسيطة، التي تعود إلى القرن الماضي. يقول أوسكار وايلد: «كل الأعمال النبيلة ليست وطنية فحسب، بل عالمية»، لهذا السبب كنتُ أشعر بالانتماء إلى ما مرّت عليه عيناي من صروح تعكس للناظر لا شيء غير فتنة وبريق الشرق. المولات والفنادق والمستشفيات، التي أنشئت في هذه السنين، تنتمي إلى جسد المدينة أيضا، وليس ثمة نموّ مشوّه أو ناشز، فهي لا ترتفع كثيرا عن تلك القديمة، واتّخذت معها الثوب نفسه، مع ترقيع وتكحيل هنا وهناك بالأسود والرصاصي، بالإضافة إلى لون الطابوق القديم والجديد، هنالك حضور بارز للأخضر القاشاني والشذري والفيروزي واللازوردي في قبب الجوامع، وشاهدتُ بنكا إسلاميّا يحمل في واجهته الألوان ذاتها. أين قرأتُ هذه الجملة: «أصبحت المعاملات الماليّة في العصر الحديث نشاطا دينيّا، ونوعا جديدا من التصوّف، يعبد فيه الناس المال ويتعشّقون هالة النور التي على رأسه»؟

قبل أن أتوجّه إلى أصفهان، طلبتُ من الصديق صادق دارابي، المترجم والأستاذ في جامعة أصفهان، أن يحجز لي غرفة في فندق بعيد عن المركز التجاري والسياحي للمدينة، كي أكون قريبا من عامة الناس، وكانت وجهتي حيّ (الشهداء)، والمقصود بهم الجنود الذين قتلوا في الحرب العراقيّة الإيرانيّة. استقبلني في بهو الفندق، وكانت الساعة حوالي الرابعة صباحا، شابّ حليق يرتدي سروالا أسود وقميصا رصاصيّا وربطةَ عنق سوداء. كان أنيقا ويستحقّ أن تُلتقط له صورة. سألته بالإنكليزية عن الوجبات وخدمة الغرف، وأفاض في إجابتي. ثم سلّمني البطاقة الممغنطة لغرفتي، وكان هناك عامل يرتدي ثيابا مشابهة تماما، بما فيها ربطة العنق، صاحبني إلى مأواي. رتّبتُ أغراضي على عجل، واستحممتُ، ثم أخذتُ طريقي إلى الشارع. تجوّلتُ في الحيّ، وصارت لديّ فكرة عن البيوت التي يسكنها الأصفهانيّون. ليس بالضرورة أن يكون كلّ ما يقوله الآخرون صحيحا. يسكن الأثرياء هنا بيوتا واسعة ذات سياجات وبوابات عالية تلوح منها أشجار الحديقة، والطبقة المتوسطة لهم دور صغيرة في الحيّ نفسه، أو في عمارات سكنيّة قديمة وحديثة، ولم أصادف ما يُدعى بفلل البؤس، أي بيوت الصفيح وما شابه. كنتُ أسير بتمهّل مسجّلا في ذهني معالم المدينة، واستوقفني باب خشبيّ قديم مغلق، أمامه على الرصيف مصطبة من حجر. من بين المقاعد والأرائك الخشبيّة العديدة في الشارع، اخترتُ هذه المصطبة مجلسا، وكان السرّ يكمن في الباب الذي يقابلني، مثل لغز عليّ أن أجهد فكري في حلّه. بقيتُ جالسا إلى أن أشرقت الشمس، وارتفعت في السماء، وحميَتْ. كان ما يحدث يمكن أن يمرّ بي في أيّ مدينة في العالم. لكنني أحسستُ أن الأمر مختلف هنا. فُتحت البوابة على حين غرّة، ورأيت حديقة واسعة تتوسطها شجرة عملاقة هامسة، بدل الأوراق كانت هنالك بلّورات تشتعل، وأتتني ألحان ناي فرحة ومقبلة كأنما من عالم آخر. لديّ شعور حدسيّ أن في المشهد تفاصيل أكثر حجبها عنّي انفعالي لأن موسيقى الناي لمست لديّ وترا عندما راحت تعلو، وطفقت البلّورات تتساقط مثل ثمار على الأرض، تدحرجت إحداها إلى مكاني على الرصيف. تناولتُها وذابت في فمي مثل قطرة عسل، وأحسستُ عندها بالصفاء وسكنتني روح المكان، وشعرت بأني أحلّق في السماء. أحد تعاريف السعادة أنها اللذة التي تنفصل عن الواقع ولا تدوم أبدا، وينطبق هذا التعريف على الهناء الذي عشته. هبّت ريح في تلك اللحظة وأغلقت البوّابة بخبطة قويّة ارتجّت بسببها الأرض، وظهر شقٌّ في جدار المبنى. لا داعي إلى القول إن الألحان سكتت والبلورات اختفت، وكلّ شيء عاد مثلما كان. هل كُتبَ عليّ أن أبقى في مجلسي منتظرا لحظة من الزمان يمنّ بها عليّ قدري، وتُفتحُ البوّابة كي أضيع فيها ثانيةً، وإلى الأبد؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.