نوادر عن وجبات العدس واشتياق إلى اللحوم أحلام الغزّيين تنتظر التهدئة… الشّبع والنّوم بلا خوف
شبكة الشرق الأوسط نيوز : بفارغ الصبر، ينتظر المجوّعون في قطاع غزة حلول التهدئة، وبدء تدفق المساعدات الغذائية والسلع التموينية بالطريقة التي سادت خلال التهدئة الماضية، ليقطعوا مع الأيام الصعبة التي يعيشون فيها منذ أشهر طويلة.
فالجوع والعطش، أنهك أجسادهم وسط مشقة الحياة المريرة، وقد عبروا عن اشتياقهم لذلك اليوم الذي يتحركون فيه بحرية دون خوف من الموت الذي يحوم فوق رؤوسهم.
ويتذكر محمود عطاونة، آخر مرة تذوق فيها طعم اللحم، وكانت قطعة صغيرة من صدر الدجاج، في نهاية الأسبوع الثاني من التهدئة السابقة التي جرى التوصل إليها يوم 19 كانون الثاني / يناير الماضي، نظرا لطول المدة التي لم يتناول فيها هذا الطعام.
في تلك المرة كان الرجل الأربعيني، وأسرته، قد حصلوا على وجبة دسمة من أحد «تكايا» الطعام، وسط قطاع غزة.. ووقتها رغم حلول التهدئة وانخفاض الأسعار لم يجد بحوزته مالا لشراء اللحوم، وقال إن أسرته حظيت بوجبة أخرى، تنازل خلالها عن نصيبه لقلة الكمية، ومنذ ذلك الحين لم يتذوق طعما للحوم لا البيضاء ولا الحمراء.
ويعيش هذا الرجل في وضع صعب، فعمله السابق توقف منذ اليوم الأول للحرب، وأسرته باتت تعتمد كليا على المساعدات، ويقول إنه لم يشعر منذ فترة طويلة بالشبع، بسبب كميات الطعام القليلة المتوفرة لدى الأسرة، بعد أن قننت الأسرة وجبات الطعام إلى واحدة في اليوم.
ويحلم شبان وأطفال في غزة، بأن تصبح وجبات اللحوم ضيفا دائما على موائدهم، بعد هذه الفترة الطويلة من الغياب، فاللحوم التي لا ينفع تخزينها في قطاع غزة، بسبب توقف شركة التوليد عن العمل، وقطع الإمدادات القادمة من إسرائيل، لم تدخل إلى القطاع منذ اليوم الأول لعودة للحصار الإسرائيلي المشدد يوم الثاني من آذار / مارس الماضي.
وقد بيعت خلال الفترة الماضية كميات قليلة منها، كانت عبارة عن خراف ودواجن، يملكها الأهالي في منازلهم أو في حظائر خاصة بأسعار مرتفعة للغاية، وفاق ثمن كيلو اللحم الأحمر الـ 100 دولار أمريكي، فيما بيعت الدجاجة الواحدة بذات المبلغ، لتهيمن بدلا منها أكلات الأرز والمعكرونة والعدس على الموائد طوال المدة الماضية، حتى أن السكان استخدموها بعد طحنها لصنع الخبز.
وعن ذلك كتب وريف، «الشيف» (الطاهي) وأحد أصحاب المطاعم في غزة، على «فيسبوك»، « فعلياً المجاعة بلشت (بدأت) تدق بواب غزة، لا لحمة، لا فواكه، لا بيض، ولا شي من البروتينات اللي بتقوّي الجسم، الناس عم تأكل لقمة مشان تعيش، مو مشان تشبع»، وتابع «الطحين صار حلم، والخضرة أسعارها بتوجّع القلب قبل الجيب، والغاز إذا لقيته، بيكون سعروا شي ما بينبلع».
ومع عمق المأساة، إلا أن حس الفكاهة لم يغب عن الغزّيين.
وظهر شبان يتندرون ويعبرون عن اشتياقهم للحوم، عبر فيديو قصير انتشر على مواقع التواصل وهم يرددون أغنية تشابه كلمات أغنية للسيدة أم كلثوم جاء فيها «العدس آه منه العدس.. تعبنا العدس.. يا لحمة تعالي تعالي على غزة تعالي».
ويحلم الكثيرون من سكان غزة بوجبة لحوم، تنسيهم طعام الجوع السابق، وطعم العدس والمعكرونة، وفي أحسن الأحوال الخبز الذي لم يكن يحمل بين ثناياه أي «غموس»، ففي منازل الغزّيين ومناطق إيوائهم في الخيام، لا تجد حاليا في أحسن الأحوال إلا أكياسًا بلاستيكية صغيرة الحجم بداخلها بقوليات، أو معلبات من بقايا طرود غذائية تسلموها في أوقات سابقة من منظمات أممية.
ونشر بعض الغزّيين على مواقع التواصل، صورة لوجبة دجاج محمر، وآخرون وضعوا صورا لقطع من اللحوم وكتبوا معلقين «اشتقنالك».
وهم لا يخفون في مجالسهم اشتياقهم لتغيير أنواع الطعام الحالي الذي يأكلونه قسرا، فهي أغذية أضرت كثيرا بمرضى القولون العصبي، الذي لا يحتمل كل هذا الطعام من البقوليات، كما أضرت بالأطفال الصغار، الذين غابت عن موائدهم الخضار الطازجة والألبان، واستبدلت بأطباق العدس والمعكرونة، وبمصابي الحرب والمرضى الذين يحتاجون أغذية تساعد على بناء الخلايا.
ومع توقف حركة غالبية المركبات، لعدم توفر الوقود، يُضطر المواطنون كبارا وصغارا ومن بينهم المرضى، لقضاء مشاويرهم مشيا على الأقدام، كما أنهكتهم رحلات النزوح القسري المتكررة، فيما يضطر جميعهم لأداء الأعمال المرهقة وأبرزها تعبئة المياه وحمل الحطب لمواقد النار، وحملها لمسافة بعيدة، والجلوس أمامها لساعات، حتى تجهيز الطعام والخبز.
وبسبب الحصار الإسرائيلي الطويل وقلة الغذاء كمّا ونوعا، تقول وكالة «الاونروا»، إن نحو 95% من السكان يعانون من درجات مختلفة من سوء التغذية، من بينهم أكثر من 70 ألف طفل وصلوا إلى الدرجة الخامسة من سوء التغذية، وهي أعلى درجات التصنيف العالمي، حيث انخفض استهلاك الغذاء اليومي إلى ما دون مستوى «البقاء على قيد الحياة».
ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا» إن منظومة الغذاء في غزة تعاني انهيارا شاملا، ويحذر من أن اشتداد المجاعة ومنع وصول المساعدات الإنسانية يهددان بحصد مزيد من الأرواح.
وإبراهيم محسن كان أحد الرجال الذين أصيبوا بإعياء شديد من قلة الطعام، فهذا الرجل الذي كان يواظب على الرياضة لبناء العضلات قبل الحرب، يقول إن جسده انهار، ولم يعد يقوى على مشقة الحياة.
ويضيف في حديث مع «القدس العربي»: «كنت أحمل أوزانًا ثقيلة، واليوم ما عدت أستطيع حمل غالونين من المياه لمسافة 200 متر»، و«في الطريق أستريح أكثر من مرة».
وفقد إبراهيم أكثر من 35 كيلو غراما من وزنه، وهو حال شابه جميع سكان قطاع غزة، ويؤكد أنه كان قبل الحرب مواظبًا على أكل الأطعمة الغنية بالبروتينات، وأبرزها اللحوم، ولم يخف اشتياقه لتذوق طعام آخر علّه يقويه على مشقة الحياة.
وحاولت بعض النساء التغلب على تكرار وجبات الطعام الشحيح، من خلال اختراع أكلات جديدة، تتناسب مع الطعام المتوفر، ففي بداية الحصار لجأت السيدات لصنع «الكباب» من اللحوم المعلبة، كما جرى استبدال البصل غالي الثمن بـ «بودرة البصل». الأمر نفسه حصل مع الثوم. كما صنعت النساء من معلبات السردين «الفسيخ المملح»، وصنعن كذلك سمكا مقليا، ومن المعكرونة الصغيرة ما هو بديل للمكسرات و«الشيبسي» للأطفال.
وباتت جميع أنواع الطبيخ تعتمد على البقوليات المعلبة ومنها الفاصولياء، إضافة إلى البازيلاء، بوضعها في قدر ملئ بالمياه والقليل من صلصة الطماطم، مع القليل جدا من البهارات، واضطرت النساء لصناعة «الدقة» من الدقيق.
ولجأ بعض سكان غزة إلى طهي لحم السلاحف، من أجل تعويض النقص الحاد في الغذاء.
وصنعت نساء غزة «اللحمة الكاذبة» من العدس، بعد نقعه بالماء، ومن ثم هرسه مع البصل، ووضع حبة بطاطس، وبعض المنكهات الخاصة بالكباب، وثم قلي الخليط كما تقلى اللحمة المفرومة، وكانت من ضمنهن السيدة أم مصطفى التي قالت لـ «القدس العربي» إنها تعلمت الطريقة من جارتها.
وتقول هدي حمدان، التي عاشت ظروف الحرب والحصار: «تخيل أكلك يكون بدون لحمة أو دجاج، وتخيل أنه بدون بصل أو ثوم، ولا حتى مكعبات «الماغي» الي بتعطي الأكل نكهة».
وتشير إلى أن نساء غزة يحضرن طعامهن بدون زيت أو أي نوع دهن: «تخيل أنك كمان بتطبخ من دون خضرة، وما في أثر للفواكه، والشاي بدون سكر»، وتقول «تعودنا نأكل أي شيء، فعلياً أي شيء، لأننا نأكل فقط لنعيش».
وبالعودة إلى أحلام التهدئة، كتب عمر اللوح على صحفته على «فيسبوك»، وهو يتحدث عما سيفعل حين يدخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ «سأركض لا أحد يسألني إلى أين؟، لا أعرف بالضبط فقط سأركض، وأركض، ربّما إلى مزرعتي المدمرة، أو الى خيمتي القديمة، أو ركام بيتي، أو غرفة بنتي الشهيدة، أو سريري المكسور والمتطاير خارج الركام، أو فرشتي المحروقة خارج الركام، أو بجانب شجيراتي المجرفة، لا أدري لا أدري، المهم أن أصِل إلى مكان هادئ بجوار ركام بيتي، مكان يسمح لي بالبكاء طويلاً لعلي ارتاح قليلا».
المصدر : القدس العربي – أشرف الهور