دولة الرئيس.. أنتَ تَعي الواقع، ولكنك لا تَعيشه
بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي…….
رأيتُه كما رأى الناس، يجوب المراكز الصحية، ويقف على أبواب المدارس، ويُطلّ على الثغور من المراكز الحدودية، يُحدّث الناس عن البنية التحتية، ويُنصت إلى شكوى الموظف، ويعد بما وعد به الملك حين حمّله الأمانة. فقلت في نفسي: لعلّها صحوة جديدة في وجه هذا الليل الطويل. ولعل دولة الرئيس، وقد حمّله سيد البلاد مسؤولية حكومة ميدانية لا تكتفي بالجلوس على المكاتب والأبواب مغلقة ، قد نفض الغبار عن الضمير الإداري الغافي في جوف الدولة.
ولكن… آهٍ يا دولة الرئيس، إنك وإن كنت تَعي ما نحن فيه، فما أنت بِمِمَّن يعيش بيننا ويعيش واقعنا .
فشتّان بين من يرى وبين من يُجرّب، وبين من يسمع بالشكوى، ومن يتذوقها علقمًا كل يوم.
بالأمس، ساقني القدر –وما أكثر ما يسوقنا– إلى بعض الدوائر الحكومية، أفتّش بين مكاتبها عن معاملة قيل لي إنها من مهمات الحكومة الإلكترونية، تلك التي زيّنت شاشات الإعلام بأحلامها، ثم غابت حين احتاجها الناس، وتركت المواطن أعزل، يطرق أبوابًا لا تُفتح، ويتوسل إلى موظف لا يُبالي.
دخلتُ دائرة الأراضي أطلب فكّ رهنٍ لعقارٍ اقترضت ثمنه من صندوق الإسكان العسكري، فإذا بالرهن مربوط باسم مؤسسة لم يكن بيني وبينها أي عهد، ولا أي دين، ولا أي شأن! ولما سألتُ عن هذا الغلط، قيل لي: إنه خطأ موظف، وما أكثر أخطائهم حين لا يُحاسَبون!
أردتُ بعدها أن أطلب معلومات عن الدائرة من على بوابة “جوجل”، فدلّتني على رقم هاتف لا يُجيب، بل لا يدق، بل لعلّه طُوي مع الزمن في ملف النسيان.
ثم قلت: لعلّ غيرها أحسن حالاً. فهالني أن أرقام دوائرنا الحكومية، تلك التي قيل إنها لخدمة الناس، إما لا تردّ، أو مفصولة، أو لا أحد يسمع النداء من خلفها.
ويا دولة الرئيس، لستَ تدري –وأنت لم تعش يومًا كأحدنا– كم هو صعب أن تدخل دائرة حكومية دون أن يكون لك “واسطة”، تسلك بها الطريق، أو شفاعةٌ من صاحب جاه، أو أنثى ذات حُسنٍ يفتّح لها الأبواب، ويُليّن بها الطباع المكشرة.
أما الفقير، والغريب، والمواطن البسيط، فعليه أن يتأدب، ويبتسم، ويقف وقوف الطالب الذليل، وألا يجلس إلا بإذن، وألا يرفع صوته حتى لو ضاع حقه في الزحام.
وإنه لَيصعد الدرج لأن المصعد ليس له، ويدور بين المكاتب لأن الموظف إمّا في “راحة صلاة”، أو يتحدث في الهاتف عن “أكلة الغداء”، أو يلوك ساندويشةً لمدة ساعة من الزمن!
ثم إذا ما جاد عليك الزمان بموظف فرغ من طعامه، ابتدأت هنا معركة التواقيع، والمراجعات، والتحويلات، وكأنك في دائرة عقاب لا دائرة خدمة، وكأنهم لا يعلمون أن وقتك –كوقتهم– له ثمن، وأن كرامتك –ككرامتهم– لا تُمس.
يا دولة الرئيس…
كل ما أصلحته في جولتك –من ترميم طريق أو إصلاح باب مكسور– يستطيع أن يُنجزه محافظ أو مدير شرطة أو متبرّع من أهل الخير.
لكن قل لي: هل تستطيع أنت أن تُصلح الحكومة الإلكترونية؟
هل بوسعك أن تعيد المعنى لكلمة “الموظف العام”؟
هل تُحاسب من أساء للمواطن، كما تُكرّم من خدمه؟
هل تستطيع أن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب ؟
هل تستطيع أن تنهي هدر 64 هيئة مستقلة يصرف عليها أموالا ضخمة تؤخذ من ضرائبنا ورسومنا التي ما عاد نعرف لها اسماء ولا مبررات ، هيئات تتوالد وتفرخ كل عام هيئتان أو ثلاثة و تفصل فقط لإرضاء أبناء أصحاب الدولة والمعالي ؟؟
هل لك عين ترى ما يجري في الغرف الخلفية من محسوبية، ووساطات، وتسهيلات لمن يملكون الأسماء الكبيرة ولمن يعملون في مؤسسات الرقابة والتفتيش على هذه المؤسسات ؟
يا دولة الرئيس إن عامل وافد حارس على عمارة أحد المسؤولين يتجاوز كل هذه المعوقات في مؤسسات الدولة الخدمية وتنجز معاملته ،في. حين أن لواء أو عميد متقاعد أو مدير مدرسة أو موظف سابق في الدولة يحتاجون إلى تعويذات وطلاسم أو مرافقة الحارس من العمالة الوافدة الذي يحرس عمارة المسؤول لتنجز معاملته .
يا دولة الرئيس، اعلم –رحمك الله– أن الرضا لا يُقاس بعدد الزيارات، ولا يُشترى بالكاميرات.
بل يُقاس حين يُعامل المواطن كما يُعامل ابن المسؤول.
ويُقاس حين يرى الموظف أن هيبة القانون أقوى من هيبة الواسطة.
ويُقاس حين يُنصف الضعيف، ويُحاسب المقصر، ويُجزى المجتهد.
اللهم احفظ الأردن، وبارك في قيادته وشعبه.
وأعِنّا على مسؤولية الوطن، فقد أثقلتنا الوعود، وما عاد في الصبر متّسع.
الكاتب من الأردن