شرم الشيخ.. عند مفترق المصائر معركةٌ على الوجود… وصلاةٌ للكرامة
فراس عوض ….
عضو المجلس المركزي/حزب العمال
هناك، في شرم الشيخ، حيث تلتقي زرقة البحر بملوحة الدموع، يقف العالم أمام مرآةٍ تعكس وجع الأرض وكبرياءها.. هناك.. تحت أضواء القاعات اللامعة وشاشات المفاوضات الباردة، تُرسم خرائط الدم والكرامة من جديد؛ كل مقعدٍ على الطاولة يحمل ظلّ مدينةٍ مهدّمة، وكل ابتسامةٍ سياسية تخفي وراءها وجعًا أعمق.. ليست الدبلوماسية هنا حوارًا بين دول، بل معركةٌ ناعمة تُخاض على حافة الوجود؛ بين من يملك الصوت، ومن يملك الحقّ.. بين من يكتب التاريخ، ومن يُمحى منه بالقوة.
خلف البنود والأوراق، تنبض الحكاية الحقيقية: أمٌّ تزرع صبرها في الانتظار، طفلٌ يرسم سماءً بلا طائرات، ورجلٌ يزرع زيتونةً على أرضٍ مهددة بالمصادرة. تُفتح الملفات وتُغلق، لكن غزة تبقى خارج الأرقام، حاضرةً بدمها وذاكرتها. فالمقاومة فيها ليست بندقيةً فحسب، بل فعلُ حياةٍ وعنادُ كرامةٍ في وجه المحو. إنها نبضٌ يقول إن الوجود نفسه مقاومة، وإن الصمت جريمة. في السابع من أكتوبر، لم يولد الطوفان من فراغ، بل من ذاكرةٍ راكمت وجعًا لم يُسمَع، وكرامةً لم تُمنح. كان الطوفان لحظةَ انكشافٍ للعالم: أن المقهور إذا صمت طويلاً، فإن انفجاره يكون صرخةَ وجود.
وعلى الطاولة نفسها التي تُدار عليها المساومات، يجلس أصحابُ الياقات الأنيقة بوجوهٍ باردة، بينما يجلس على.الجانب الآخر شعبٌ بأكفٍّ محروقةٍ وقلبٍ مثقلٍ بالرماد. الخطر الحقيقي ليس في البنود، بل في ما يُسلب من المعنى؛ أن يتحوّل النضال إلى بندٍ في محضر، وأن يُسعَّر السلام بثمن الذاكرة. فحين تُفرَّغ العدالة من مضمونها، يُصبح السلام امتدادًا للهزيمة.. والسلطة التي كان يُفترض أن تجمع الفلسطينيين غابت عن المشهد، فيما تتزاحم المبادرات الإقليمية بأسماءٍ براقةٍ وأجنداتٍ غامضةٍ تعيد إنتاج التبعية باسم الواقعية السياسية. وحدها المقاومة رفعت اقتراحًا وطنيًا صريحًا …”وحدة لا وصاية”، ” شراكة لا ارتهان”، “كرامة لا مساومة.”
لقد أثبت الطوفان أن القضية الفلسطينية لم تعد حدودًا على ورق، بل معركةٌ على المعنى ذاته؛ من يملك الحق في الحلم، ومن يُسمح له أن يحيا بحريةٍ فوق أرضه.. إن إعادة بناء غزة ليست مشروعًا هندسيًا، بل وعدٌ أخلاقيٌّ وامتحانٌ للضمير الإنساني. المطلوب ليس إعمار الحجارة، بل ترميم الروح، وبناء مؤسساتٍ حرةٍ لا تتحرك بإشارة مانحٍ أو بإملاء احتلال. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تدرك أن الحياد في زمن المذبحة خيانةٌ صامتة، وأن الصمت أخطر من الرصاص.
شرم الشيخ ليست مؤتمرًا آخر، إنه مفترق مصائر. إن توافرت الإرادة، قد تتحوّل الطاولة الباردة إلى جسرٍ يُعيد للكرامة دفأها، وقد تُترجم دماء الصمود إلى سيادةٍ حقيقية. أما إن غابت الوحدة، فسيبقى الشعب ينهض من تحت الركام، يكتب بدمه ما عجزت المفاوضات عن قوله، ويذكّر العالم من جديد: لن تُشترى كرامتنا، ولن يُكتب فصلُنا الأخير إلا بأيدينا.
الكاتب من الأردن