فادي السمردلي يكتب: عند الوصول إلى الشاطئ يتوقف الدعاء وتسقط الأقنعة
بقلم فادي زواد السمردلي …..
*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*
👈 *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*👉
عند الوصول إلى الشاطئ يتوقف الدعاء، لأن الدعاء عندهم ليس إيمانًا بل تمثيلًا، وليس رجاءً بل وسيلة للعبور فهناك نوع من البشر لا يعرف الله إلا حين يضيق عليه الطريق، ولا يعرف الخشوع إلا عندما يتهدده الغرق فتراهم في وسط العاصفة يتحدثون بلسان الضعف والتوبة والنية الطيبة، يرفعون أيديهم بالدعاء كأنهم أولياء طاهرون، لكن ما إن تلامس أقدامهم اليابسة حتى ينقلبون على كل ما قالوه، ويمسحون وجوههم من كل ملامح الورع التي كانوا يتفاخرون به فهؤلاء لا يسجدون شكرًا، بل يسجدون مكرًا فقلوبهم معلقة بالمكاسب، وألسنتهم مشبعة بالكذب، ووجوههم مرسومة بعناية لتبدو طاهرة وهي ملوثة حتى العظم.
إنهم يملكون قدرة عجيبة على التحول، كالحرباء التي تغيّر لونها بحسب الضوء، يبدّلون نبرات أصواتهم بحسب من أمامهم، ويتقنون فن التمثيل بإتقان ممثلٍ محترف يقف على خشبة المسرح، لا يخطئ في توقيت دموعه ولا في حجم ابتسامته ولكن الفرق أن الممثل الحقيقي يؤدي دوره ليعيش الناس لحظة صادقة، أما هؤلاء فيؤدون أدوارهم ليخدعوا الناس ويستنزفوا ثقتهم، وليسرقوا منهم أحلامهم بحجة “المصلحة العامة” و”الظروف التي لا ترحم”.
تراهم يتحدثون عن المبادئ حتى تفتح لهم الأبواب، ويكتبون عن الأخلاق حتى يلمع اسمهم، يرفعون شعارات الوفاء والشفافية بينما في داخلهم وحش يلتهم كل من يقترب فيستخدمون الطموحين كأدوات تسلّق، يوهمونهم بأنهم شركاء في حلم جماعي، ثم حين يتحقق الحلم يتحول إلى كابوسٍ يُقصى منه الجميع عداهم فلقد عرفوا أن الناس تحب اللغة النظيفة، فارتدوها كستار، ونسوا أن القذارة لا يمكنها أن تُخفي رائحتها مهما تجمّلت.
عند الوصول إلى الشاطئ يتوقف الدعاء، لأن البحر بالنسبة لهم ليس سوى مرحلة مؤقتة من التظاهر، والنجاة بالنسبة لهم ليست إنقاذًا بل إذنًا ببدء الانقلاب على كل من دعمهم وصدّقهم فكم من شخصٍ بنى مجده على أكتاف الآخرين ثم دهسهم حين صعد وكم من وجهٍ كان وديعًا في البدايات ثم انقلب متغطرسًا متسلطًا بعد أن قبض الثمن! فهؤلاء لا يختلفون عن اللصوص، سوى أنهم يسرقون باسم الفضيلة، ينهبون بعباراتٍ ملساء ومواقفٍ محسوبة، يزرعون الوهم ويجنون الثمار وحدهم.
والمؤلم أن هؤلاء لا يشعرون بالندم، لأنهم فقدوا القدرة على الإحساس منذ زمن، صاروا يرون التلاعب ذكاءً، والمكر دهاءً، والنفاق دبلوماسية فيتحدثون عن “تغير الظروف” وكأنها تبرر تلوثهم، وعن “تعدد الأدوار” وكأنها تعفيهم من مسؤولية الكذب فكل شيء عندهم قابل للبيع الكلمة، المبدأ، وحتى الذكرى ومن يجرؤ على تذكيرهم بماضيهم، يصفونه بالناقم أو الحاقد أو الغيور، لأن الحقيقة تؤلمهم، وتذكرهم بأنهم مجرد ممثلين سقطوا من المسرح بعد أن انتهى المشهد.
لكن البحر لا ينسى، والسماء لا تصمت، والناس – مهما خُدعوا – لا يظلون أغبياء إلى الأبد. وسيأتي اليوم الذي تتكشف فيه الوجوه وتتعفّن الأقنعة، فحين تنكشف ملامحهم أمام أول اختبار جديد، فسيسقط عنهم الزيف الذي ارتدوه طويلاً وعندها يتضح أن كل دعواتهم السابقة كانت كذبًا بلسانٍ يرتجف من الطمع لا من الخوف، وأن كل كلماتهم الجميلة كانت جسرًا للوصول، لا قَسَمًا بالصدق.
الذين يتوقفون عن الدعاء عند الشاطئ، هم أنفسهم الذين يتوقفون عن الإنسانية بعد أول مصلحة، يبدؤون مشوارهم بأقنعة الرحمة وينتهون بأنياب الاستغلال فهم تجسيد حيّ للنفاق المترف، يرفعون شعارات الفضيلة فيما يطعنونها من الخلف فيبدون متواضعين حين يحتاجونك، ثم متغطرسين حين يطأونك، ويكتبون الخطب البليغة عن الإخلاص بينما هم أول من باعه عند أول صفقة.
إنهم دليل قاطع على أن الانتهازية أخطر من الخيانة، لأن الخائن يطعنك مرة، أما الانتهازي فيحتضنك وهو يغرس السكين في ظهرك فهؤلاء هم من يجعلونك تتساءل عن معنى الإيمان، عن جدوى الدعاء، عن صدق البشر. لأنهم حين وصلوا إلى الشاطئ أوقفوا دعاءهم، أوقفوا شكرهم، أوقفوا إنسانيتهم فلقد عبدوا المصلحة، وسجدوا لها، ثم سمّوا ذلك “ذكاءً ونجاحًا”. لكن الحقيقة أنهم مجرد جثث تسير على قدمين، بلا ضمير، بلا روح، بلا وفاء والبحر الذي حملهم إلى الشاطئ يوماً، سيعود يومًا ليلفظهم، لأن الموج لا يحمل الزيف طويلًا، ولأن من يتوقف عن الدعاء عند الشاطئ، إنما يعلن موته الأخلاقي قبل أن يلفظه البحر الأخير.
الكاتب من الأردن