الهوى.. مُصححٌ فاشل..
محمود الدباس ….
في قاعاتِ التصحيحِ.. لا يعرفُ المصححُ صاحبَ دفترِ الإجابةِ.. لا اسماً ولا ملامحَ.. أمامه فقط كلماتٌ.. وأجوبةٌ.. وأفكارٌ.. فيقرأها بضميرٍ باردٍ لا يتأثرُ بالمحبّة ولا الخصومة.. يُعطي العلامة لما كُتِب.. لا لمن كتبَه.. وهكذا يُولَد العدل حقّاً.. حين يُفصلُ الفعلُ عن صاحبِه..
كم تمنيتُ لو أننا نُعامل آراءَ الناس كما يُعاملُ المصححُ دفاترَ التوجيهي.. دون أن نبحث عن الاسم في الزاويةِ العليا.. أو في نهابة الكلام.. ودون أن نحكم على الفكرةِ من شكلِ الخط.. أو من تواقيع الهوى.. لكننا لا نفعل.. نحن نحاكمُ الأشخاصَ.. لا الأقوالَ.. نحاسبُ النوايا.. لا الأفعالَ.. ونوزّعُ الإعجاب.. أو الهجوم.. حسبَ مزاجنا.. لا حسب الحقيقة..
مشكلتُنا ليست في الفكرةِ.. بل في صاحبِها.. تماماً كما نحتفلُ بالهدف فقط.. لأنّ من سجّلَه لاعبُنا المفضّلُ.. فإذا سجّل لمنتخبنا لاعب لفريقٍ خصمُنا.. صار هدفاً عادياً.. وربّما تحدّثنا عن سوءِ الحارسِ.. بدلَ جمالِ التسديدةِ.. هكذا نفكّر.. وهكذا نظلمُ أنفسَنا.. قبلَ أن نظلمَ غيرَنا..
أصبحنا نعيش في زمنٍ مقلوب.. نبرر الخطأَ إن صدر عن صديق.. ونجرّمُ الصواب.. إن جاءَ من مخالفٍ.. نصنعُ لأنفسِنا مقاييسَ على مقاسِنا.. نُطوّع الحق ليخدمَ ولاءَنا.. ونكتم الحقيقةَ لأنّ قائلَها لا يُعجبُنا.. أي إنصافٍ هذا؟!..
العدالةُ ليست شعاراً نرفعهُ في وجه خصومِنا.. العدالةُ أن نزن الأمور بميزانٍ واحد.. لا يتبدّلُ بتبدّلِ الأسماء.. أن نحكم على القول بما فيه.. لا بمن قالَه.. فالكلمةُ لا تكتسبُ قيمتها من فم قائلِها.. بل من صدقها.. ومن أثرها في العقول..
حين نفصل الأشخاصَ عن الأقوال.. سنبدأُ بالتحرر من هذا المرضِ.. وسنكتشف أن كثيراً مما كرهناه لم يكن سيئاً.. وأن كثيراً مما أحببناه لم يكن عميقاً.. فالمقياس الصادق.. لا يعرف الوجوهَ.. بل يعرفُ المعنى..
ليتنا نُصحح أفكارَنا.. كما تصحح دفاترُ التوجيهي.. بصمتٍ.. وحيادٍ.. وعدلٍ.. حينها فقط.. سنعرف مَن الناجح حقّاً.. ومَن كان ينجح فقط.. لأن اسمَه مكتوب بخطٍ جميل..
محمود الدباس – أبو الليث..
الكاتب من الأردن