*انتفاضات الجامعات والشعوب في أوروبا وأمريكا بعد طوفان الأقصى: تحوّلٌ في الوعي الغربي وإعادة تشكيل للموازين الفكرية والسياسية*
د.أحمد العرامي ….
شكّلت معركة طوفان الأقصى لحظة فاصلة في التاريخ المعاصر، إذ تجاوز تأثيرها حدود الميدان العسكري لتحدث تحوّلاً نوعياً في البنية الإدراكية والسياسية للرأي العام العالمي، ولا سيما في الغرب. فالمشهد الدولي ما بعد هذه المعركة لم يعد امتداداً لما قبلها؛ إذ شهدنا اهتزازاً عميقاً في المفاهيم التي طالما شكّلت ركائز الخطاب الغربي حول العدالة، والحرية، وحقوق الإنسان.
لقد مثّلت المواجهة في غزة اختباراً أخلاقياً غير مسبوق للمجتمعات الغربية، حيث تبيّن حجم التناقض بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية. وفي خضم هذا التناقض، برزت الجامعات — باعتبارها مؤسسات الوعي والمعرفة — كمسرح مركزي لجدل أخلاقي وفكري جديد، عبّر عنه آلاف الطلبة والأكاديميين في أوروبا والولايات المتحدة من خلال موجات احتجاج واسعة، ومطالبات واضحة بوقف الإبادة التي يرتكبها كيان العدو الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، ورفض الدعم السياسي والعسكري لكيان العدو.
تُعدّ هذه الانتفاضات الجامعية أكثر من مجرد ردّ فعل عاطفي على مأساة إنسانية؛ فهي انعكاس لتحول بنيوي في الوعي الغربي تجاه القضية الفلسطينية، قوامه إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمعرفة، وبين القيم المعيارية والتطبيق السياسي. إذ أدركت فئات متزايدة من النخب الأكاديمية والطلابية أن الصمت أمام الانتهاكات الجسيمة في غزة لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية أو سياسية، وأن الموقف الأخلاقي يقتضي الانحياز الواضح للمبادئ الكونية التي طالما بشّر بها الغرب ذاته.
من الناحية السياسية، وضعت هذه التحركات الحكومات الغربية أمام مأزق وجودي في خطابها الأخلاقي. فالتناقض بين خطاب الدفاع عن حقوق الإنسان من جهة، والمشاركة الفعلية في دعم كيان العدو الإسرائيلي، من جهة أخرى أفرز أزمة مصداقية عميقة أمام الرأي العام الداخلي. الأسئلة التي طرحتها الشعوب اليوم ليست خطابية بل بنيوية: كيف يمكن لنظام ديمقراطي أن يبرّر سياسات الحصار والتجويع؟ وكيف يمكن لقوى تتحدث باسم القانون الدولي أن تسكت عن خرقه حين يتعلق الأمر بإسرائيل؟
هذه الأسئلة تُعيد صياغة العلاقة بين المجتمع المدني الغربي ومؤسساته السياسية.
أما على المستوى الاستراتيجي، فإن ما شهدته الجامعات الغربية يُنذر بإعادة تشكل طويلة المدى في الوعي الجمعي، إذ يمثل هذا الجيل الأكاديمي الواعي البذرة الأولى لتحول ثقافي وأخلاقي قد يؤثر مستقبلاً في دوائر القرار وصناعة الرأي والسياسات الخارجية. فالمسألة لم تعد مقتصرة على التعاطف الإنساني، بل تجاوزت ذلك إلى تفكيك المنظومة الخطابية التي طالما حصّنت كيان العدو الإسرائيلي من المساءلة الأخلاقية.
إن الأهمية الجوهرية لهذه الانتفاضات تكمن في التحول المفاهيمي الذي أحدثته داخل المجتمع الغربي ذاته. فالقضية الفلسطينية لم تعد تُقدّم في وعي النخب والجيل الجديد كصراع ديني أو سياسي، بل كقضية عدالة وكرامة إنسانية، تتقاطع مع نضالات أخرى ضد العنصرية والاستعمار والتمييز. ومن هنا يمكن القول إن معركة طوفان الأقصى لم تغيّر معادلة القوة فحسب، بل أعادت بناء المعنى الأخلاقي للصراع في الوعي العالمي.
في المحصلة، ما تشهده الجامعات والشوارع الغربية اليوم لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً، بل مؤشراً على تحوّل معرفي وأخلاقي عميق في الثقافة السياسية الغربية. وهو تحوّل يُنذر بإعادة توزيع رمزي للسلطة بين الحكومات والشعوب، حيث بدأت الأخيرة تستعيد حقها في مساءلة الخطاب الرسمي وكشف تناقضاته. لقد أصبح واضحاً أن الحرية لا تُجزأ، وأن الإنسانية لا يمكن أن تبقى رهينة ازدواجية المعايير، وأن ما يُرتكب في غزة هو جريمة أخلاقية وحضارية قبل أن يكون انتهاكاً سياسياً أو قانونياً.
الكاتب من اليمن