حبيب الزيودي .. حين صار الشعر وطناً
بقلم د. هاني العدوان. ….
وتعود ذكرى الفقد، فنحس وجعه ما زال فينا
تعود لتُعيد إلينا وجه الوطن في ملامح شاعر أحب أرضه حتى الفناء، ووهب القصيدة معناها الأسمى وخلودها الأبقى
إنها ذكرى رحيل الشاعر الكبير حبيب الزيودي الذي كتب الشعر بمداد الروح، فصار اسمه من حروف البلاد وصوته نغمةً في ترابها، وصدىً في وديانها، وعبقاً في جبالها
كان الزيودي حالةً استثنائية في المشهد الثقافي الأردني والعربي، انبثق من رحم الأرض كما ينبثق الينبوع من الصخر
يحمل صدق البوح ورائحة القمح ودفء الجيرة
كل بيت خطّه كان خريطةً للأردن يسير فيه القارئ من مكان إلى مكان، فتنهض القصيدة كأنها البلاد نفسها تنطق وتغني
كتب كما يُصلي المؤمن في محرابه، لا يبتغي تصفيقاً ولا مديحاً، بل كان يرى الوطن كائنٌ حيٌّ يسكن في وجدانه، وأن الشعر هو اللغة التي تنقله من التراب إلى الخلود
رأى في الأرض معشوقته، وفي الناس مرآته، وفي التاريخ سفراً يُعاد ترتيله كلما كتب بيتاً جديداً
ومن ذاكرة اللقاءات، كنا نجلس لساعات، يطوف بي أرجاء الوطن كأنه دليله الأمين
يأخذني من قاع وديانه إلى قمم جباله، ثم يبحر بي إلى بحره في غيرانه وخليجه على جناح الكلمة
يتحدث عن الأردن كأنه قصيدة ناطقة، كل تفصيلة فيها تملك نَفَساً ومعنى، من دحنونه وشيحه وقيصومه، إلى نهره وجباله وسهوله
كنت أراه يعيش القصيدة، يذوب في مفرداتها وكأن كلماته امتداداً لروحه
ذلك هو حبيب الزيودي الذي لا يُحدّ بحدود، ولا يُختصر بكتاب
تربّى شعرُ الزيودي على الكرامة، وتشظّى ضوءُه على صهواتِ الفروسية، ونما في ظلالِ الخيلِ والتراب، وعلى ذُرى سنابلِ القمحِ التي أنضجها عرقُ الوطن
رأى في القصيدة رايةً تُرفع، فامتطى حروفه فارساً وجعل من الكلمة سيفاً
وحين أنشد للأردن دوّى صوته في وجدان الناس كما يدوّي النشيد في ساعة النهوض، لأنه خاطب العصب الحيّ في الأمة لا سطح الشعور
كانت قصائده معاني صافية تُوقظ في القلب النخوة وتزرع في الروح الطهر والجمال
غاب الجسد وبقي الصوت
وغاب الشاعر وبقي الوطن يلهج باسمه
قصائده ما زالت تسكن في حناجر المغنين، وفي قلوب البسطاء وفي دفاتر العشاق، لأنها خرجت من قلب يشبههم
في كل بيت من شعره ظلّ لجدارٍ قديم، ونورٌ من فانوس في قرية، وعبقُ فجرٍ يتسلل من شبابيك الطفولة
كتب الكرامة حتى صارت قصيدته مرثيةً حيّة للنخوة
وكتب الأم حتى تحولت أبياته صلاةً على عتبة بيتها
وكتب الأردن حتى صار هو نفسه جزءاً من جغرافيته المقدسة
وفي سياق الشعر العربي المعاصر، شكّل الزيودي جسراً بين القصيدة التراثية والهوية الوطنية الحديثة
حافظ على جوهر اللغة دون أن يفقد نكهة اللهجة وروح المكان
كتب بالعربية الفصحى لكنها تنبض بحرارة الوجدان الشعبي، في مزيج فريد جعل من قصيدته لوحةً يجتمع فيها الإيقاع العربي الكلاسيكي مع النبض الأردني الصافي
أعاد للأرض نطقها، فتكلمت على لسانه الحقول والجبال والبوادي، وردّ للشعر مهابته حين جعله قسماً من تراب ودم وكرامة وراية ترفرف على سارية الوطن
شعره امتدادٌ لجذور الخليل والمتنبي وطوقان، لكنه ظلّ يحمل بصمة الأردن وحدها، الأصالة حين تتكلم بلغة البساطة والعنفوان
لقد منح حبيب الأغنية الأردنية وجدانها وخصوصيتها
ألبسها ثوباً من الصدق والكرامة وجعلها مرآةً لروح الناس، وصوتاً للمدن والبوادي والسهول
في كلماته تماهى الأردني مع ذاته واستعاد إحساسه بالفخر فصارت قصائده نشيداً دائماً يسمعه الوطن في قلبه
حبيب الزيودي شاعر ترك في التاريخ أثراً وبصمة أردنية خالدة كالنقش على الصخر
رحمك الله ايها الحبيب حبيب
الكاتب من الأردن
