أردنيّ مغترب… وأمنية العودة التي أطفأتها الرسوم
بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي…………….
حدّثني صديقٌ عزيزٌ عليَّ، رجلٌ حمل التاج والنجمة على كتفه يومًا، ثم خلع بزّته العسكرية، ولبسَ ثوب الإغتراب، مضطرًا لا مختارًا، حتى استقرّت به الدار في كاليفورنيا، حيث لا يحتاج المرء إلى “واسطة” كي يتنفس، ولا إلى توقيع مديرٍ كي يحلم.
قال لي:
– يا صديقي، قضيتُ خمسة عشر عامًا أجمع قرشًا فوق قرش، أعدّ الأيام لأعود إلى وطني… كنتُ أقول في نفسي: “سأرجع، وأبني مشروعًا يشغّل أبناء البلد، وأردّ بعضًا مما علّمتني إيّاه تراب سحاب.”
ثم ابتسم ابتسامةً أعرف معناها، تلك التي تسبق مصيبة، كابتسامة المريض قبل أن يفتح الطبيب تقرير التحاليل.
قال:
–جئتُ إلى الأردن، دخلتُ على شركة الكهرباء. قلت لهم: “يا جماعة الخير، أريد أن أبني محطات شحن كهربائية في عمّان والزرقاء، مشروع يشغِّل خمسين شابًّا.”
فنظروا إليّ نظرةً كأنني طلبت منهم الشمس على سبيل الإعارة، ثم قالوا: “على راسي، الرسوم 78 ألف دينار… وغير مستردة.”
78 ألف! كأنهم يبيعونني مفتاح الجنة، لا مجرد ورقة موافقة.
ثم تناسلَت الرسوم كما تتناسل الأرانب: بلدية، وطوابع، ولجان، وموافقات كلّ واحدٍ منها بوجهٍ غير الوجه، وصوتٍ غير الصوت، حتى صار مجموع ما يجب أن أدفعه قبل أن أضع أول حجر 150 ألف دينار.
قلت له:
–يا رجل، لعلّك تبالغ؟
فأقسم اليمين وقال:
–والله يا صديقي، لو أردتُ أن أفتح كشك لبليلة هناك في كاليفورنيا ما احتاجوا كل هذا!
ثم تابع:
–حسبتها. الدولة تريد 60% من دخلي ضرائب، وما بقي ستأكله أجرة المكان والعمّال والكهرباء والمخالفات، فيبقى لي… لا شيء.
يا صديقي، في الحسابات: المشروع خاسر، وأنا “حمار” إن نفّذته.
وكنتُ أظنه سيضيف شيئًا يضحك، لكنه أضاف ما أبكاني.
قال:
–طرحتُ المشروع على ولاية كاليفورنيا. كلّ ما قالوه: “الرسوم 5000 دولار، مسترجعة… وإذا نجح مشروعك ساعدناك بـ30% من البنية التحتية.”
وفي الختام قالوا لي: “نحن في صفّك، لأن نجاحك من نجاحنا.”
ثم صمت قليلًا، وقال:
–اتصلت بوزير في الأردن، حاكم من أهل القرار، علّه يفهم ويُصلح… ففاجأني قائلاً:
“انت مجنون؟! بدك تستثمر بالأردن؟! اقعد محلّك… وانسَ الموضوع.”
قالها هكذا، ببرودةٍ تصلح لتجميد بحرٍ كامل.
فبكيتُ يا صاحبي. بكيتُ لأن الوطن الذي أحببته لم يعُد يريدني.
يا الله…
رجلٌ يريد أن يبني، فتُغلق أمامه الأبواب، بينما تُفتح أبواب الهجرة على مصراعيها لكل صاحب حقيبة.
ثم قال:
–لو استطعتُ أن أشتري قبري من سحاب، بشجر الزيتون الذي فوقه، وأضعه في فناء بيتي بكاليفورنيا، لفعلت. على الأقل أعرف أنّني سأرجع يومًا… ولو رجوعًا بلا روح.
يا صديقي…
نملك في الأردن الأرض، والشعب، والسلام، ولكن نفتقد شيئًا واحدًا: الإدارة التي تعرف كيف تقول للمستثمر: أهلًا… بدل أن تقول له: اهرب!
ولستُ ألومك إن فضلت أن تبقى حيث أنت، فالوطن اليوم ليس من يحنّ إلى أهله… بل من يحنّ أهله إليه، ويظلّ واقفًا على الباب لا يُفتح.
أسأل الله أن يصلح الحال، وأن لا يأتي يومٌ نقرأ فيه أن آخر المستثمرين قد أغلقوا دفاترهم… وفتحوا حقائب السفر.
الكاتب من الأردن