قراءة في «وطن النجوم» للشاعر حمودة زلوم

د. صابر الهزايمة *
ديوان «وطن النجوم/ قصائد في المكان الأردني» للشاعر المبدع حمودة زلوم، يوضح مدى عمق حسه للشعر وللوطن،فهو قد جعل الشعر دينه وهمّه، إذ ينظم القصيدة بسلاسة وسهوله وله فيها روح دفّاقة، وحروف مجنّحة، والحديث عن الشعر له مذاقه الخاص عدد ما يتعلق الأمر بالشاعر حمودة زلوم، فهو يسمو بفكرة ديوانه أساساً، وهي الفكرة التي أخذت من نفسه وقلمه الكثير؛ ليطرّز قصائده بشغف المكان الأردني الذي أحبه طوال حياته مخلصاً في بثّ أوزان شعره وقوافيه لتكون له قصيدته العمودية التي تتسم بروح الأصالة والمعاصرة.
فهو شاعر التزم نهج العرب متمسكاً برصانة الأسلوب وقوة البناء معالجاً
في وصفه ومديحه قضايا وطنه المختلفة معتمداً في ذلك على عقله وعاطفته دون تكلّف فيما يقول. خاصة وأن لكل مدينة أو قرية أو ناحية زارها الشاعر قد أثارت في نفسه تاريخها الوضاء بما كان لها من مجد على مرّ السنين وما بعثته في الأمة من عزم وقوة، فها هو في قصيدته (بترا) يقول:
«نحن شعبٌ همّه بعث الحضارة/ فابتنينا المجد يزهو بالنضارة. منذ بدء الكون كنّا أمةً/ تنحت الصخرة وتستجلي انبهاره. ها هم الأنباط قومي قد أقاموا/ فوق هام النجم في بترا مناره».
وشاعرنا مجوّدٌ متقن لشعره، فلا تجد موضعاً إلاّ وفيه عمق اطّلاعه وتمكنه، وهو لا شكّ مؤهل لذلك، لأنّه يملك الأداء وحسن التذوق ولا ينقصه الصبر،وهو كذلك صادق في تصوير خلجات نفسه وعواطفه من حيث حبّه وارتباطه بالمكان الأردني الذي أحبّ، فهو يأخذ موقفه منحازاً إلى ذلك المكان مصوّراً إياه بأبهى صورة، فهو في (دبّين) منشغل القلب بجمال المكان، مفتون به يملأ قلبه أملاً، ويزهو بفيض خضرته وجلال غاباته:
«يا من بها القلب انشغل/ بجمالها يحلو الغزل. إني حببتك حلوتي/ والحب تفضحه المقل. أنتِ التي ألهمتني/ وملأت قلبي بالأمل».
وهو في (الزرقاء) يستدعي التاريخ وأبطاله وصناديده مصّوراً في الوقت نفسه الزرقاء بأنّها درّة الأردن، وهي التي يحيا بها قلبه خفّاقاً، فأنّى تلفّّت طالعته مفاخرها:
«أين الشبيب أبو النعمان من عرفت/ أنداء جوده أهل البدو والحضر. الفارس البطل الفريد من خبرت/ ساح البطولة عند الفرّ والكرّ. يا طيب أمواها يا خصب تربتها/ يا طيب أثمارها تزهو على الشجر».
وهو الذي يرى تألّق الزمان في (سوف): «(سوف) تألّق في الزمان حضورها/ فتبوأت فحماً وأشرق نورها. وغدت تحاكي النجم في أضوائها/ فسمت وعانقت السماحة دورها».
ولنستمع إليه مترنما ًبهديل حمام (ماحص) وقد أشجى لحنها قلبه وهي تحلق ببهجة في سمائها: «في (ماحص) هدل الحمام متممّاً/ لحناً يفيض عذوبة وترنّما. طوراً بظلّ الياسمين وزهره/ طوراً يحلقّ بابتهاج في السما».
وسيلمس القارىء قدرة الشاعر وهو يصف المكان الأردني متنقّلا من شمال الأردن إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وفي قراه وضواحيه، وسيلمس مدى قدرته على تطويع لغته وقدرته على سكب أوزانه واختيار المناسب منها لقصيدته فهي أوزان طافحة بالموسيقى كما في قصيدته «(مادبا) في عام الثقافة 2012»: «يا مادبا يا مادبا/ بالشوّق لبّيت الندا. لا زلت دار ثقافة/ بين النبوغ تعدّدا».
وكذلك في قصيدته «نهر الأردن»: «أنا المشتاق (للغور)/ إلى الدحنون والزهر. إلى (الأردنّ) دفّاقاً/ بعشق ترابه يجري».
وقصيدته «المفرق»: «هذي المفرق/ وجه أشرق/ قلب يخفق/ وهج يبرق».
ولتنظر في قصيدته «الزرقاء أنشودة المجد»، ولتتمعن في بحرها وموسيقاها: «يا ساكني البلدة الوضاء هل خبر/ عن الأحبة يشفي القلب والكبدا. قد مرّ عامان والآلام تقهرني/ زرقاء حبك أضنى الروح والجسدا».
وهنا نتبيّن بوضوح كيف يتنقّل الشاعر بقصائده برشاقة قلّ نظيرها بين بحور الشعر وموسيقاها، هادئه مرة، وراقصة أخرى، وباعثة على الجلال والهيبة في مواضع غيرها.
ومن مميزات الشعر والقصيدة عند حمودة زلوم المفردات الجزلة والصورة الدّالة أيّما دلالة لتجعلك أسيرها كما في قصيدته «(عجلون) دار الجمال « إذ يقول: « كالنسر قلعتها تطل ّبهيبةٍ/ تروي حكايا الصيد عشاق السرى. سبحان ربي قد حباها برّه/ فكسا روابيها وساماً أخضرا».
ويكفينا رقّة هذا الشعر وصياغته الراقية وأسلوبه الموفّق بمعانٍ تفيض صدقاً ووطنية وفخراً بتاريخ أردنّه المجيد عبر عصور الزمان المختلفة.
وهنا لا بدّ من القول: إن حموده زلوم شاعر مجيد متقن لشعره ومبدع في صوره وصاحب ذوق رفيع في اختيار ألفاظه. وقبل هذا وذاك هو شاعر ظلمه زمانه، وكان أجدر أن يُغنّى شعره على ألسنة شُداة الوطن، وأن يجري على كل لسان أردنيّ، وخاصة طلبتنا الذين هم على مقاعد الدراسة لتعميق وترسيخ المكان الأردني وجماله وتاريخه في نفوسهم، وليكون جزءاً مهما من قضيتهم التي نعدهم لها، وهي الالتحام بتاريخهم والدفاع عن تلك الأماكن، وعن قضاياهم بكل ما أوتوا من قوة وعزم.
وفي تراثنا العربي لم يكن المكان موضوعاً جديداً في الشعر العربي فالشعراء العرب القدامى تحدثوا فيه وعنه كثيرًا، ونجد حضوراً كبيراً للمكان في سجل الوقائع التاريخية التي حدثت في المدينة العربية والإسلامية، وما ابن الرومي والديلمي وابن خفاجة وأحمد شوقي وعرار إلا أمثلة على ذلك وهم يمخرون عباب المكان؛ ليطبعوه بخصوصية الرؤية والتعبير القائمة على المعرفة الأكيدة، وليس في إطار التجربة الشعرية فقط.
وقد كانت لحمودة زلوم رؤاه الحضارية اجتماعياً وثقافياً وجغرافياً مشكلاً تجربته بوعي كبير، فهو رومانسي يرى المكان بروحه لا ماديته، ويراه بطهارته مثلما هو باعث للهناء والطهارة والجمال، وتستطيع القول كذلك إن حمودة زلوم كان مجموعاً في ذات واحدة بما مثل من قيم الولاء والانتماء والتربية والخلق، فلم تقم علاقته بالمكان على المجاملة والمصلحة بل كانت تعبيراًعفوياً صادقاًعن مشاعره المكنونة تجاه رقة أنهاره وشموخ أشجاره وعظمة تاريخه وجغرافيته وما يبعثه من اعتزاز بما سلف من حوادث ووقائع وما يمكن لها أن تبعث في نفوس النشء، وقدرتها على ربطهم بماضيهم، ولذلك فالمكان عند شاعرنا حمودة زلوم هو الأمن والسكينة والعشق الصوفي مثلما هو المعشوق والحلم.
فهنيئاً لنا بحمودة زلوم شاعراً ألقاً منتمياً مبدعاً صاحب قلم رفيع، يضرب لنا المثل في إخلاصه لوطنه بكل ما يكتنز من مدن وقرى وهاداً وجبالاً ، ماءً، وروحاً، وبهذه الشاعرية الفياضة وتمكنه من أدواته الشعريّة المتكاملة.

* أكاديمي من الأردن

قد يعجبك ايضا