المعتصم خلف: الباحث عن كل شيء “الخطاب الأول في ثقافة السقوط”
المعتصم خلف
لستُ من أولئك الذين يبشّرون برعدية المطر القادم لكي تتفتّح كتب القادمين من العهد الحديث, فالرضى عن الكتب الحديثة التي تصدر الآن ليست مهمتي الجدية وليست مهمتي النقدية, ولكن يكفي حوار الواقفين على الحياد لكي يعلنوا الخطاب المثالي عن سبب انحدار المفهوم الأدبي أو سبب غياب بعض الأسماء والعناوين, للسقوط ثقافة أيضاً لا تكفي مشاهدتها في لحظة ارتطامها الحرّ في جدار الحسّ العالي, بل يجب توثيقها لنؤكد على أن الدخول في الخطأ لا يتم الآن من ثقب إبرة في الخفاء بل الدخول في الخطأ يتم من الأبواب الكبيرة ضمن أغلفة مزخرفة وورق مرتّب ومبيعات عالية و من خلال مؤيدين, فالسقوط أيضاً لهُ ثقافة ومؤيدون وأغلفة معدّة للبيع, والغريب أن للسقوط الأدبي الحر جيشاً من المدافعين عنه و أدلّة من التاريخ لنضج التجربة الحاضرة, معتمدين على نسخ الماضي وتشبيهه بالحاضر, صحيحٌ أنّ نزار قباني في البداية رُفِض وحاربهُ مجتمعه ولكن ليس الكل نزاراً, لأن تجربته كانت لكسر حاجزٍ ما أو لتكريس تعابير ومفاهيم كانت مرفوضة, ولا يمكن الآن أن نكسر حاجزاً كُسِر في الماضي كأننا نكرّر فعل التحطيم الذي قام بهِ نزار قباني, فإذاً يجب أن نكون على قناعة تامة أن الكاتب إذا بحث عن القضية التي يجب أن يكتب عنها فهو فارغٌ من السبب الكتابي فيفتح قائمة القضايا في المطعم المحدد المصائر ليختار الأسهل للكتابة فيختار مثلاً قضية المرأة والرجل وخيانة الأول للثاني أو العكس, فهل تخلّص الوطن العربي من مشاكله ومن كل أزماته لكي نوثّق حالات الخيانة في رواياتنا. هذا مثال يمكن أن يتكرّر مع أكثر من كاتب وروائي.
موضوع هذه المقالة الذي يراه البعض مبالغة والذي يراه البعض الآخر تطفلاً على ما تراه أغلبية الجماهير العربية أدباً كاملاً أو رواياتٍ كاملة الحس والمعنى, هذا المقال الذي يراه الأغلبية تكريساً لغير الطبيعي في الواقع الطبيعي, كأنني أنا المتّهم الآن بدونية الفكرة وسخط الجميع. لذلك يجب أن أقول بأنّه في هذا الوضع المفتوح على الأزمات, في هذه الحالة المكشوفة الانفجارات والتداخلات, في هذا الواقع الذي يجمع محصلة حروبٍ وأفكار تنحدر من تجمعات وثورات ودماء ومن حداثة مُسيطَر عليها ومحددة الزوايا والأضلاع, من هذا الواقع الذي يقود الأمام إلى الوراء ويسلّط الضوء على الصدى الصوتي الذي يخلط النهايات بالبدايات ويعلن حالة القبول لأية سطحية مزدوجة الخطى أو منفردة السلطة… لا يمكنني إلّا أن أعلن أنّ كل ما هو جماهيريٌ هو غير مكتمل أو غير جيد بمعنى أدق, وأخاف أن نسمح للمنهار أن ينهار أكثر وأن تتداخل الطريقة مع الطريق الجديد ليصبح كل شيء كتلة واحدة قادرة على طمس أسماء أدبية كبيرة في الوطن العربي.
الثقافة التي يجب أن تحدّد دورنا اليوم هي التي يجب أن تتقمص شكلاً بشيراً قادراً على خلق الممنوع في زمن الرفض والقدرة على توثيق الحالة الشعبية الجماهيرية, والتناقضات اليومية التي تجسّد حالة الوطن العربي لا تولّد انكساراً بل تولّد تداخلاً مع حالة الولادة على دفعات التي يمكن أن تحقق مبدأ الولادة الكاملة, لذلك يمكن اعتبار هذا المقال درساً أولاً في الانتماء إلى الإبداع, إلى الأدب القادر على خلق مواد جديدة والقادر على كشف تفاصيل الحدث العربي والحادثة الشاملة لشعوب عربية كاملة, الأدب الخاضع لتجربة الكاتب الذي يكتب بزمن الانحدار اليومي, هذا الانحدار الذي لا يقوم بالوقوف أمامه بل الابتعاد عنه لعرض الحدث بطريقته الحديثة.
لا يمكننا الآن الوقوف على حافة التجربة لكي نعلن أننا مقبلين لكتابة روايات جيدة, ولا كل ما يولد من تكرارالزمن الواحد هو من أصحاب العقول الراجحة, ولكن أن تطرح في كل عام رواية ذلك لا يعني أنك تخليت عن زمن التجربة أو تقمصت دور البطل الغافي الذي يكتب في نومه, حيث إن أضخم الأعمال المهمة قد كُتبت في معدل ست أعوام والأمثلة كثيرة جداً من (مريم الحكايا) لعلوية الصبح إلى (زمن الخيول البيضاء) لإبراهيم نصرالله إلى (ملحمة الحرافيش) لنجيب محفوظ.
وإذا ابتعدت عن درامية اللحظة الراهنة فيجب أن تنظروا معي إلى الجهة التي تقود إلى الطريق الصحيح للخطوة الواقفة على عتبة الدخول إلى الرواية الصحيحة, وإذا كان من الممكن امتلاك سلاح في زمن الضفة الواحدة التي تقود النهر نحو مستقبلٍ فاقد للذاكرة فلا يمكن إلا أن نكرّس الانتماء إلى الإبداع, الانتماء إلى الفن, الانتماء إلى الفكرة التي تؤيد نظرية طرح الجديد ورفض اللغة المكتوبة الآن التي تعتمد على الأحداث المفككة والتي تغيب عنها آلية البحث عن المغزى أو المعنى.
الثقافة الجديدة التي أنظر إليها هي ثقافة اكتشاف الوطن العربي, واختلاق زاوية خامسة لنتأمّل من خلالها أنفسنا من بعيد, ثقافة تعتمد على الإسهام في التغيير, والتغيير لا يعني الانقلاب على الشيء أو نقله, بل أن يكون أدبنا مرآة لنشأة الأرض الجديدة المبنية على طرح الاحتمالات الجديدة الولادة والمستقبلية المنشأ, لا نريد ثقافة نقف معها على الحياد ولا تحمس خجلنا في المكتبات العامة ولا حتى كتباً تكتب للجوائز العربية, نحن اليوم نحتاج إلى أسماء عربية جماهيرية نفخر بها, فالجماهيري اليوم في الوطن العربي هو ما يعرّض أدبنا إلى خطر.
الثقافة التي أتمنى أن أقف أمامها هي التي تستطيع أن تفتح للمجهول أدواته وتعيد للّغة مفاعيلها القوية, الكثير من الأسماء عملت على هذا المبدأ ولكن الكثير منها طمستهُ دونية الروايات ” الجماهيرية ” , هل يجب أن أعرف إن كان الأسود يليق بأحد ؟ الأسود يليق بمستوى ما تكتبون في عزاء فارغ الذاكرة وتسرق من الماضي أدواته الحسية ليشعر بسخط ما كان. لذلك غابت الكثير من الأسماء مثل جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف وإميل حبيبي…, على حساب الكتب الجديدة والبسيطة, المفتعلة الحسّ والمشاعر والتي تؤيد التجارة الربحية.
لا يمكنني إلا ان أقول أن الثقافة هي محاولة الدخول إلى أي شيء في خضم التجربة, التجربة هي أساس اللغة التي أحلم بها ولا أعلم ما ينقص هذه الأرض لتلتف الجماهير حول كتب تستحق الصوت العالي والمبيع الزائد, وأخاف أن يكون أدونيس صادقاً عندما قال في لقائه الأخير أن كل ما هو جماهيري الآن ليس كامل النضوج, هل هي ثقافة جمهور أم ثقافة كاتب وجد أمامه جمهوراً جاهزاً فأحبّ أن يلعب دور الروائي على حساب اللغة, أم مبالغة الحاضر لحماس شاب يحب البلاد التي تورث الأرض كنايات وصوراً كلها أسئلة يجب أن تفك اجنحتها لنجد الجواب الواحد لتجربة الرواية العربية.
[email protected]
