ولم يكن الشيطان ثالثنا!

كنت أنوي اليوم كتابة «لقاء مع القراء» لكن موت الأحباب فرض نفسه على قلمي. وقد حاولت تأجيل تسطير هذه الكلمات طوال شهر كي أتحاشى البكاء على كتف القارئ، ولدى كل قارئ ما يكفي ويزيد من الأحزان الشخصية.. لكنني لا أتقن فن الكذب الأبجدي وأعترف بحزني لموتين: لمن لم أعرفها، ريم البنا ولموت أخ وصديق عرفته وعملت معه طويلاً هو الصحافي الشاعر حافظ محفوظ.

ريم: مقاومة سرطان الاحتلال الإسرائيلي!

لا أعرف ريم البنا المطربة الفلسطينية ولكن موقفها الشجاع من مرض السرطان أسرني حين أعلنت انها ستقاومه وستشفى، وكانت رائدة عربية في الإعلان عن مرضها الذي يتستر عليه الكثيرون.
وجدت في موقف ريم البنا من مرضها ورغبتها الشجاعة في مقاومته الكثير من روح المقاومة الفلسطينية ضد السرطان الإسرائيلي. لقد انتصــر المرض. ورحـــلت الجمـــيلة ريم وذلك يذكّرني برواية «الشـــيخ والبحــر» لهمنغـــواي التي نال عليها جائزة نوبل حيث لحقت الهزيمة بالشيخ أمام الحيتان لكنه ظل مصراً على المقاومة. ريم هزمها المرض لكنه لم يقهر لديها إرادة المقاومة.. كما المقاومة الفلسطينية في كل حقل.. وداعاً أيتها الفلسطينية الجميلة بمعاني الكلمة كلها: ريم البنا.

رحيل حافظ محفوظ: مفاجأة أليمة

اما أخي وصديقي الراحل الصحافي اللبناني البريطاني الشاعر حافظ محفوظ إبن مرجعيون في جنوب لبنان ورئيس تحرير مجلة «الحصاد» اللندنية فحكاية أخرى تطول..
في مقهى (الهورس شو) تعارفت مع حافظ حين وصلت من دمشق إلى بيروت وتعاملت مع حافظ على نحو أسبوعي حين صار مديراً لتحرير مجلة «الحوادث» في لندن وكنت أكتب صفحتها الأخيرة من باريس وشاركته حزنه لرحيل صديقتي شريكة عمره إنعام ووالدة أولاده بسام (عضو المجلس البلدي ـ لندن ـ إيلينغ) وفيكي وماريا..
كان التعامل المهني مع حافظ محفوظ مريحاً جداً وهو الشاعر المرهف بل إنه إكراماً لي كان يصحح بنفسه «لحظة حرية».

حافظ: رئيس تحرير لم يلحظ ذلك!!

حين توقفت «الحوادث» عن الصدور لم يتوقف تواصلنا الهاتفي بين لندن وباريس. كان حقاً عفيف اللسان وطيب القلب في أزمنة متوحشة. ولعله رئيس التحرير الوحيد الذي كان يبعث بنفسه إلى الأصدقاء بمجلة «الحصاد» اللندنية التي أسسها وقام برئاسة تحريرها حتى رحيله، كان يكتب بنفسه عنواني ويذهب إلى البريد لإيداعها بنفسه.. وتلك لفتة استثنائية نادرة.
وفي مخابرتنا الهاتفية الأخيرة اتصل بي ليطلب مني ترجمة ما جاء في التقرير الأخير لفحصه الطبي وهو بالإنكليزية التي لا يتقنها حافظ. وعلى الرغم من أنني لست طبيبة لم يعجبني ما سمعته. وطلبت منه إطلاع ابنه بسام عليه فوراً. وكان ذلك حوارنا الأخير: رحل بعدها بعشرة أيام!

صداقات أخوية جميلة..

أحب التذكير بعلاقات إنسانية تولد في حقل العمل كعلاقتي مع الراحل حافظ محفوظ الذي سأبكيه دائماً وأفتقده، علاقات صداقة تنبت في مكان العمل وتستمر..
ومن أجمل الأمثلة على ذلك صداقتي مع الصحافي إبن صيدا ـ لبنان عاطف السمرا.. ذات ليلة اتصلت بعاطف وقلت له إنني قررت ترك بيروت وسأذهب للإقامة في لندن. سألني وهو الصديق الحميم لي ولغسان كنفاني وكان يرافقنا في الكثير من سهراتنا وجاء ذكره في العديد من رسائل غسان لي… سألني: هل أنت هاربة من صلتك برجل متزوج وأب لطفلين؟ لم أجب بل قلت له: أرجو أن تمر بي غداً باكراً لأسلمك سيارتي ومفتاح بيتي لترمي بأثاثه وتعيده إلى المالك بعد ثلاثة أشهر حين ينتهي مبلغ الأيجار الذي كنت قد دفعته مقدماً.. ورحلت لكن عاطف لم يرم بالأثاث الجديد لبيتي وكان قد رافقني يوم اشتريته بل أودعه لي في مكان آمن. وكم تأثرت حين جاءت زوجة عاطف السمرا وغسلت ستائري البيض وكوتها واحتفظت بها لي.

مات والدك؟ ولكن اكتبي..

كان الصديق عاطف السمرا سكرتير تحرير مجلة «الأسبوع العربي» يمر بي لاستلام مقالي الأسبوعي حين لا أذهب بنفسي إلى مبنى المجلة في حي «الأشرفية» – بيروت لتسليمه وكان ذلك قبل زمن الفاكس والإيميل.
جاء ذلك اليوم ولما تمر على وفاة أبي عدة أيام وكنت (بحالة) يرثى لها تجاهل ذلك وسألني: أين المقال؟
قلت: لم أكتب شيئاً. لا أستطيع.
ـ بل تستطيعين، الكتابة طوق نجاتك.
كنا في شهر آب/أغسطس (اللهاب) وجرني عاطف من يدي إلى الحمام ووضع رأسي تحت صنبور الماء البارد وقال: الآن إجلسي واكتبي.
وهكذا كان. وكتبت عن والدي الحبيب.. وظللت أكتب. هذه هي الصداقة الحقيقية. فقد ظل عاطف جالساً حتى أنجزت الكتابة.
والحكايا تطول مع عاطف وزوجته وحافظ وأصدقائي الذكور الذين عملت معهم في حياة مهنية طويلة لم يكن الشيطان ثالثنا فيها.. وستحتل فصولاً في مذكراتي..
وإلى «لقاء مع القراء» في الأسبوع المقبل.

قد يعجبك ايضا