سليمة عذاوري ونهاية النقد..

واسيني الأعرج

 

قبل مدة قصيرة فقدت الأوساط النقدية والجامعية الجزائرية والعربية واحدة من أهم الأصوات النقدية العربية الواعدة.
ولدت الدكتورة سليمة عذاوري، الأستاذة المحاضرة في جامعة بومرداس، في سنة 1982، وتوفيت إثر مرض عضال لم يمهلها وقتا كبيرا، على الرغم من شجاعتها في مقاومته بكل الوسائل الطبية الممكنة. ولم تتوقف لحظة واحدة عن التأمل والتفكير في مشروعها النقدي وفي جامعتها، والالتقاء مع طلبتها وزميلاتها وزملائها.
كتبت الكثير في نقد السرد العربي، لكنها لم تنشر منه إلا القليل. كانت الرواية شغلها الشاغل، فتابعت تحولاتها عن قرب، قراءة ونقدا، ولا تزال الكثير من محاضراتها التي ألقتها في جامعات متعددة وفي مراكز البحث العلمي تنتظر اليد البيضاء التي تقوم بجمعها وتقديمها للقراء.
كتاباها الأساسيان المطبوعان في دار رؤية، في القاهرة، يحددان مسارها العلمي بدقة، حيث اكتملت رؤيتها النقدية، لقد اختصت في التفاعلات النصية بين النصوص السردية العربية والعالمية والتراث الثقافي البعيد، وهو عملها الأكاديمي الأساسي الذي ظلت تمارسه في جامعتها ومختلف الجامعات التي استضافتها في شكل ندوات أو ملتقيات.
لغاتها الأجنبية، وخاصة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، سمحت لها بالاقتراب من المدارس النقدية في أصولها بدون الاتكاء على الترجمات التي ليست دقيقة دائما. عملها الأول الذي أنجزته عن غسان كنفاني كان مؤشرا واضحا عن جهد نقدي كان يرتسم في الأفق، فقد رفضت الناقدة د. سليمة عذاوري صيغة التقديس، وأخضعت الجهد الإبداعي والبشري عموما للقراءة النقدية.
في الوقت الذي احتفى النقد العربي بروايتي «رجال في الشمس» و«عائد إلى حيفا»، راحت هي تصب اهتمامها النقدي على رواية شبه منسية أو مهملة لغسان كنفاني «ما تبقى لكم» التي أظهرتها في صورة النص الاستثنائي، خارج المعايير السياسية التي سيطرت كليا على النقد العربي. قراءة جديدة بكل المعاني وضعت جهود غسان كنفاني في مواجهة مرايا النقد الحر.
ثم عملها الثاني حول التناص الذي كان بدوره ثمرة عمل أكاديمي مميز اشتغل على عنصرين متصلتين أساسيين يطرحان اليوم على النقد بقوة: الرواية والتاريخ، والرواية والتناصات التي يخلقها النص الذي يتوسل مادته النقدية من التاريخ نفسه. لقد فهمت آلية موضوعها النقدي بسرعة، وصاغت من جديد السؤال النقدي العربي المتعلق بهذه الموضوعة وليس من الناحية الكمية، أي من خلال مدى حضور المادة التاريخية في نص من النصوص. وهي تصورات تقليدية تفترض الأدب بوصفه مرآة يجب أن تحترم التاريخ وتعيد إنتاجه كما كتب المؤرخ، ولكن من الناحية الكيفية. فذهبت بذلك نحو مسارات جديدة اهتمت بالدرجة الأولى بالفاعلية لا بالكم، أي كيف يتفاعل التاريخ مع النص المبدَع لدرجة محو الحدود الفاصلة بين التاريخ والتخييل.
المؤدى في النهاية هو هذا المحو الذي يحفظ للنص الروائي شعريته وأدبيته وخصوصيته، وهو الفاصل في العملية التفاعلية بين التـــاريخ والتخييل الـــروائي، وهو ما لم يقم به غيرها نقديا، إذ ركزت أغلب الجهـــود النقدية العربية على الجانب الكمي للتاريخ، وكأنه هو الذي يحدد تعـــريف الـــرواية التاريخية. تقول في هذا السياق، إننا نجد أنفسنا أمام حالة تناصية عندما يكون النص متفوقا في لعبة الإيهام التاريخي التي تمحو كل حدود الأجناس. هذا الكتاب أخرج الرواية من التاريخ ووضعها في مسارها الطبيعي الذي هو الأدب.
في كتابها الثالث كانت التجربة النقدية قد استقرت نهائيا، ثم واصلت تعميق مشروعها النقدي نظريا هذه المرة لما لاحظته من فوضى في المصطلح النقدي العربي، فأعادت النظر في الكثير من المشاريع النقدية العربية ووضعتها في مسارات النقاش، في سياق نقد النقد، بعد أن درست لسنوات المصطلحات النقدية الغربية، بالخصوص التناص الذي استفادت منه أجيال متعاقبة. فأعادت قراءة النص النقدي العربي في أفق الاستعادة النقدية للمصطلحية العربية التي غطت النصف قرن الأخير دون القدرة على التوقف لاختبارها، إذ فُهمت عربيا في الكثير من الحالات مبتورة أو ناقصة ومعزولة عن سياقاتها وعن الأرض التي نبتت فيها.
أعادت قراءة جهود المدونة النقدية العربية فاكتشفت خللها المعرفي العميق الذي لم يؤهلها لأن تغادر الأرض العربية. لا يوجد ناقد عربي واحد، كتب باللغة العربية، استطاع أن يخرج من المساحة المحلية أو العربية في أحسن الأحوال. لا بد أن يدفعنا ذلك إلى التساؤل، كما تقول الدكتورة سليمة عذاوري: لماذا وجدت الرواية العربية والسردية-من خلال نصوصها المميزة-طريقها إلى العالمية، بينما بقي النقد العربي رهين الدائرة المحلية؟ فاستعادت الكثير من التجارب النقدية العربية التي تحتل المشهد النقدي اليوم، فقرأت ما كتبه النقاد قراءة متمحصة ومتسائلة، مثل الناقد المغربي سعيد يقطين، والناقد السعودي سعيد البازعي، والناقد التونسي فوزي زميرلي، مكتشفة فجوات هذه المدونة وضعفها المعرفي.
لم تنس الدكتورة سليمة أن تذكر في كل مداخلاتها ومشاركاتها العلمية أن هذه الرؤية ليست ناسفة أو ملغية للجهود السابقة، ولكنها قارئة لها من منظور ما يمنحه النقد الأدبي الفرنسي أو الأنكلوساكسوني من إمكانات متجددة بشكل دائم. ومن بين كل النقاد الذين أخضعتهم للقراءة الجديدة يظل فوزي زميرلي الأقرب إلى المرجعية الغربية التي فهمها وطبقها على النصوص برصيد ثقافي حقيقي، فهو يكاد يكون الوحيد الذي استعمل المصطلحية النقدية كما في أصولها الأوروبية، الفرنسية بالخصوص، على العكس من كثير من النقاد المغاربيين الذين اشتغلوا على الموضوعة النقدية الجيدة بمعرفة ضعيفة للغة الفرنسية، ما انعكس سلبا على جهودهم النقدية.
المخاطر النقدية التي سجلتها الدكتورة سليمة عذاوري هي أن التأسيس العربي بُني على أخطاء كثيرة وقاتلة نقديا أسهمت في خلق جيل متساهل في كل شيء بما في ذلك المصطلح النقدي والشبكة المفاهيمية المصاحبة للنقد.

قد يعجبك ايضا