من ظلال نجيب محفوظ… أصل الحكاية: الكلام عمود الرواية

عبدالحفيظ جلولي

 

يسكن الكاتب فضاء معيشه ليجعل منه دكانا تختلط فيه الأصوات، يغتنم منه كلام لحظة عابرة، وينسج حكاية تبدأها كلمة. الأشياء لما تتحرك أمام الروائي ويرصدها، أي تلفت انتباهه، يستسلم لإغرائها وألاعيبها، فتمعن في الحركة مباغتة لحظة دهشته بخطاب خفي، وفي مجال الدهشة هذا، تتراص حجارة الحكاية لتبني بيت الرواية.

الهامش والظلال/ الخيال الـ«نجيب»:

ليس من الدربة في شيء أن نمسك القلم مباشرة ونرسم قدر الشخوص الورقية، بدون العبور على نتاجات الكتابة في أخيلة البسطاء في حواري الحكايات، كمحاولة لإنجاز الذات في جهات الخيال الذي لا يسطو عليه الواقع، الخيال ذاك الذي يطوّع الواقع ليصبح مادة أصيلة في تركيب الخيال. لم تكن تجربة قراءة عالم نجيب محفوظ الروائي سوى محطّة للدخول إلى حركة نجيب ذاته في حواري القاهرة، وملامسة نبض البسطاء في الشارع والمكان الأول والمقاهي، وحتى أروقة الفضاءات الرسمية، لأنّ قراءة محفوظ، تعتبر قراءة في منجز تطور المكان والشخصية والرمز والأسطورة والبركة ومفاتيح دعاء الأم، وهي تشيع ابنها للخروج إلى عتبات الدنيا الواسعة، ذلك اشتغال نجيب على عجينة النص وهو يحاول أن يكون فقط حاراتيا (من الحارة)، بحيث تترجم كل مفردة فيه وكل جملة وحركة سردية حالة من حالات الرّوائي في انحيازه لعالم شخوصه. سأل إبراهيم عيسى محفوظ عن إلى من يهدي نوبل، فردّ عليه بعفوية: إلى «زنّوبة العالمة»، إحدى شخوص الثلاثية، فلم تكن شخوص نجيب سوى ظلال واقع تمّ ترويضه ببراعة تامّة، وينخرط الروائي في همّ الحارة إلى درجة أن تكتسب الشخصية الورقية ملمح المكان، حيث الروائي وإيّاها ينصهران في بوتقة الكلام، «الشعبي»، «الهامشي»، يتذوقان المعاني المارقة من قعر فنجان قهوة بجانب شقاوات الحرافيش.

نجيب يعود من غفوة الموت:

لم تكن حادثة الاغتيال في حق نجيب محفوظ بمعزل عن شعبية الروائي وحَارَوِيَتِهِ، أي بمعزل عن ذلك الخيال الذي يراوضه شبح الواقع فيخيّله. ميزة نجيب محفوظ أنّه كان يعيش في تواؤم تام مع الخيال تماما كما الواقع، ولهذا لم تهزّه ثورة الواقع ضدّ رواية «أولاد حارتنا»، لاعتباره الثورة على كتاباته تساهم في توليد الحدث وصهره بالطريقة التي تجعله لصيق ثورة الشّخوص وهي تفجر أزمنة المكان، فلا يمكن أن يكون المكان كينونة مرحلة إلى الخيال بدون أن يتبعها واقعها، ولهذا، وكما يصفه الروائي جمال الغيطاني بعد استفاقته من العملية الجراحية، كان فَرِحا بنجاته من الموت، وهذا من أكبر علامات التوافق مع الذات في خيالها عن الواقع، فنجيب كما البشر يحب الحياة، وحب الحياة نوع من المغامرة، وتلك هي واقعية الإيهام بالواقع المتخيّل.

لم تكن حادثة الاغتيال في حق نجيب محفوظ بمعزل عن شعبية الروائي وحَارَوِيَتِهِ، أي بمعزل عن ذلك الخيال الذي يراوضه شبح الواقع فيخيّله.

يروي الغيطاني وبعفوية الحكّاء المتخيِّل، أنّ محفوظ طلب منه إحضار نظّارته، وكأنّه يريد الواقع بعد أن عاد إليه من متخيّل اللاواقع أو الموت، والغيطاني ينبّه إلى مفردة تائهة في مسار العودة من غفوة الموت، أنّه لأوّل مرّة يرى نجيب بدون نظارة، وتلك روعة الرّواية حين تكتب مساراتها بعفوية المبادرين إلى إنجازها، فلحظة نجيب هي مسار حياته النّاظرة إلى الواقع بمنظار الحكاية، أمّا برهة العبور من الحكاية إلى اللاواقع شكّلها وضع نجيب اللاناظر (بدون نظارة)، إلا أنّ الإشارة الأشدّ إرباكا للقراءة لدى محفوظ، سواء على الورق أو في الواقع، هي لحظة طلبه بعد استفاقته مباشرة من الغيطاني أن يدعو له في «الحسين»، ويمثل هذا السلوك المنحى الأنقى والأمثل في مسار الكتابة ببلاغة كلام المعيش وليس بلاغة اللغة العالقة بين الحذر والنّسق، فالنجاة من الموت فيها عودة الرّؤية (النظارة) والرّؤيا (الرّوح)، وببلاغة الكلام اقتدّ من شيخوخة العمر فرح الكتابة النّهائي في «أحلام فترة النّقاهة»، التي كتبها وهو يغالب الإحساس بالعجز، فبصره ضَعُفَ وسمعه قلّ ويده أصابها شلل من أثر الطعنة، ويجمع النقاد على أنّ «الأحلام» تمثل رحلة نجيب محفوظ الوجودية التي قال عنها: «أحببت الحياة وأحببت العمل وأخيرا أحببت الموت».

المقهى والمسار نحو الكلمات/ الكلام:

هل كان نجيب محفوظ يسكن الخيال أم الواقع؟ يمكنني أن أجيب ببساطة أنّه كان يسكن الكلام، الذي لا يمكن بغيره أن تُكْتب الرّواية، وت. س. أليوت يرى أنّ «الشّعر يستمدّ حياته من كلام الناس، وبالتالي فهو يمنح هذا الكلام نوعا من الحيوية في مقابل ذلك»، وكذلك الرواية، الفن الشعبي بامتياز، كلّما تمثلت كلام الناس، ازداد هذا الكلام معنى وحيوية وصارت من خلاله الأحداث والأمكنة والشخوص أكثر حيوية وتعبيرا عن الخيال/الواقع، عن الحارة التي تتحرك فيها حميدة، وآمنة، والسيّد عبد الجواد وزيطة. ولعلّ الطاهر وطار استفاد من هذا الفضاء الإنساني/الشّعبي في تحريك شخوصه نحو القارئ/الواقع كما هو الحال مع شخصية بولرواح في «الزلزال».
من هنا كانت أهمّية المقهى بالنسبة لمحفوظ، إذ يمثّل ذاكرة وبلاغة التجربة الكلامية، ففي مجالسة «الحرافيش» تمرين مخيالي على العبور إلى عبق المكان وعراقة اللفظ، المعبِّرين في جوهريهما عن محفوظ البادئ لتوّه رحلة الحياة، أي أنّه كان يكتب مسكونا بلحظة الحارة الأولى، لهذا كان لصيقا بكل ما هو بدئي، كل ما هو فطرة أولى قائمة على البساطة وكينونة الأشياء على حالها، ولا يمكن أن يشكل هذه اللحظات المعيارية في حياة الرواية سوى سلطة الكلام.

أما الكلام فهو اللغة في بدايتها وبدائيتها وتوحشها حين تعبّر عن التصورات البدئية والضرورية متحرّرة من قيد الحذر والنّسق.

نجيب /الرواية/الكلام:

ما الذي أوصل نجيب محفوظ إلى نوبل، هل هو نجيب ذاته؟ أم الرواية أم الكلام؟ 13 أكتوبر/تشرين الأول 1988 ليس بالتاريخ الذي يمرّ هكذا في الوجدان الرّوائي العربي، لأنّ قائد فرقة «الحرافيش» حاز العالمية، وهو لم يغادر القاهرة ولا مرّة واحدة، مفارقة، نعم هي هذه المفارقات العجيبة التي تخلق الفرادة، عدم مغادرة المكان هو ما جعل اللغة تخضع لسطوة الكلام، فالسّفر هو التحوّل في المكان، وبالتالي التشكل داخل اللغة تهيّؤا للتعبير التحولي الذي سوف يشهده المخيال، لكن نجيب كان وفيّا لحارته، فلم يغادرها، استوطن هامش الاستيهام والتفاهة في بلاغة الكلام، الكلام وحده القادر على تفهم الاستيهامات والتفاهات، الكلام هو ما أوصل نجيب إلى نوبل.
حتى بعض الأدباء الذين ابتعدوا عن المكان، كان إبداعهم كتابة حكاية المكان، فالروائي الدمشقي رفيق شامي المغترب في ألمانيا منذ خمسة وأربعين عاما يقول: «أنا لم أغادر الشام، غادرتُ وغادَرَت الشام معي، لا أتركها تفلت من يدي إطلاقا»، رغم كتابته باللغة الألمانية إلا أنّ دمشق حاضرة بسلطة كلام الدّمشقيين، «الدّمشقي يشعر بالسّعادة عندما يضع رأسه على الوسادة وقد نشر ثلاث شائعات وتلقى أربعا منها»، لا تصل اللغة إلى هذا المكان الأعمق في السّلاسة، الكلام ما يسرق متعة الوشوشة من مسافات اللغة.
سأله مرّة الشاعر فاروق شوشة عن سمات فن قص عربي، فأجاب بأنّه من جيل قرأوا التراث وبعد ذلك طالعوا نتاج المحدثين، وكان في ما كتبوا شيئا جديدا لم ينتبهوا إليه، هو القيمة المضافة، الحكاية، ومادّتها الكلام، إنّها ذلك الشيء الذي يستنطق الواقع بمقومات المخيال وسلاسة الخطاب القائم على الملفوظ اليومي، ذلك أنّ التفكير باللغة روائيا يسجن الروائي داخل جدران القاموس، أما الكلام فهو اللغة في بدايتها وبدائيتها وتوحشها حين تعبّر عن التصورات البدئية والضرورية متحرّرة من قيد الحذر والنّسق.

٭ كاتب جزائري

قد يعجبك ايضا