«بريكست: حرب قذرة»: مُسودّة أولى من تاريخ «ديستوبيّ» معاصر
ندى حطيط
التاريخ البشري مسألة شديدة التعقيد تتداخل فيها عوامل عدة وتتشابك بحيث يعجز الذّهن أحياناً عن استيعاب تفاصيله فيلجأ – كما سعيه دوماَ – إلى تبسيط الحدث والتركيز على أجزاء مختارة منه، ومن ثم ربطه بلحظة انطلاق محددة. وهكذا تشحب مثلا كل الأجواء السياسيّة والصراعات الطبقيّة التي استمرت لعقود قبلها، لتبدأ الثورة الفرنسيّة بيوم سقوط الباستيل في 5 مايو/آيار 1789، وتتراجع الأزمات العميقة التي عاشتها الإمبراطوريّات الأوروبيّة القديمة منذ بداية القرن العشرين إلى ظلام الكواليس لتبدأ الحرب العالميّة الأولى بلحظة إطلاق النار على وليّ عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو يوم 14 يونيو/حزيران 1914.
إذا كانت هناك ثمّة نقطة رمزيّة محددة أطلقت مرحلة صعود الشعوبيّات وولادة الشكل الجديد من الفاشيات المعاصرة فلن تكون سوى البريكست الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وتحول منذ ثلاث سنوات تقريباً إلى نحوٍ من ضيف دائم على الشاشات وفي الصحف ومواقع الإنترنت. البريكست – الاسم الرمزي الذي خلعته الصحافة على استفتاء شعبيّ أجرته الحكومة البريطانيّة يوم 23 يونيو/ حزيران 2016 بشأن عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبيّ – وكأنه نقطة الصفر لديستوبيا العيش المعاصر التي سهر العالم ذات ليلة صيفيّة ليجد نفسه يمشي داخلها تكاد تتناهشه وحوش الظلام والترامبيات والزّومبيات.
هذا تماماً هو الشّعور الذي يتملك المشاهد عند جلوسه أمام شاشة التلفزيون ليتابع الممثل البريطاني الشهير بينيدكت كمبرباتش وهو يقدّم آخر إبداعاته لاعباً دور دومينيك كامينغ – الذي يقال بأنه كان العقل المصمم للحملة المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ – في الدراما التلفزيونيّة الجديدة «بريكست: حرب قذرة» التي قدمتها شبكة HBO عن نص لكاتب المسرحيّات والنصوص السياسيّة المعروف جيمس غراهام وعرضتها التلفزيونات البريطانيّة بداية الشهر الحالي وقبل إطلاقها هذا الأسبوع في الولايات المتحدة.
التاريخ كما لو كان شيخاً حكيماً عجوزاً يمشي بخطوات متثاقلة، يمضي كثيراً من الوقت متمهلاً قبل أن يشرع في تسجيل روايته عن الحدث وملابساته والعوامل الرئيسة التي جعلته يأخذ نسقاً معيناً دون آخر، ولذا يأتي «بريكست» – الفيلم الدراميّ التلفزيونيّ – ممخضاً بإحساس مسودة أولى للسّجل الذي سيضعه التاريخ لاحقاً عن لحظة انطلاقة مرحلتنا الديستوبيّة المعاصرة، وتحضيراً ربما لعمل ينبغي له أن يكون ملحمة بصريّة كبرى من طينة المسلسلات الكبرى ك«لعبة العروش» أو «بيت من ورق» عن بريكست الأمريكيّ اللاحق لبريكست البريطانيين – الميكروسكوبيّ بالمقارنة -: لحظة توليّ دونالد ترامب منصب رئاسة دولة العالم الأعظم. لقد كان بريكست البريطانيّ التجربة المختبريّة لما سيحدث لاحقاً في الولايات المتحدة.
كامينغ: الشيطان وراء التفاصيل
بالنسبة لمعظم المشاهدين، سواء داخل بريطانيا أو حول العالم فإن شخصية دومينيك كامينغ تبدو في الفيلم التلفزيوني أقرب للخيال منها للحقيقة وتعطي الإحساس بأنها إضافة مقحمة على الواقع من قبل مبدع النص كطريقة لقول ما يشاء على لسانها. لكن كامينغ شخصيّة موجودة بالفعل، وقد كان مستشاراً في طاقم ديفيد كاميرون رئيس الحكومة البريطانية السّابق الذي تولت إدارته عمليّة تنظيم استفتاء 2016 العتيد قبل أن يترك منصبه ليتولى قيادة الحملة المؤيدة لبريكست، فوضع شعاراتها وصمم استراتيجيتها وحدد تكتيكاتها محققاً نصراً لم يتوقعه الكثيرون برجحان كفة فريق الخروج من الاتحاد على كفة فريق البقاء فيه على الرّغم من أنّه شخصياً معادٌ للبريكست. كامينغ بعد هذه النتيجة، انسحب من الحياة العامّة وامتنع من وقتها حتى الآن عن الإدلاء بأيّة تصريحات صحافيّة. كمبرباتش يقدّم كامينغ درامياً كشخصيّة غريبة الأطوار يدفعها تقمّص مهني عميق وإحساس غامض بالازدراء تجاه المنظومة السياسيّة برمتها، وكراهيّة لا لبس فيها للسياسيين المحترفين. وهو يدرك تماماً عبثية الاستفتاءات وتسطح نتائجها، ويعلم أكثر من غيره رداءة فكرة البريكست بعامة وكميّة الخداع والنفاق التي بنيت عليها، لكنه مع ذلك يبدع كرياضيّ أولمبيّ أو كموسيقار هائل في تحقيق النتيجة الاستثنائية المطلوبة منه.
عن تحويل الخداع من فنّ إلى علم
يسجل بريكست – العمل الدرامي – مرحلة التحضيرات التي سبقت لحظة التصويت على بريكست – القرار -، وهو يبدو أقرب ما يكون إلى دراما-وثائقيّة تستمد مادتها من أشخاص واقعيين وأحداث حقيقية، وتستعين بعديد من المقاطع الأرشيفيّة. يتحقق الاختراق – في الدراما كما الواقع أيضاً – لحظة تلاقي كامينغ الباحث عن طريقة للوصول إلى قطاع عريض من الناخبين (ثلثهم في حالة البريكست) الذين لا يصوّتون عادة في الانتخابات السياسيّة الطابع، وليست لديهم ميول محدّدة بشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبيّ سلباً أو إيجاباً مع شركة مشبوهة (كامبريدج أناليتيكا) توفرت على تقنيات متقدمة تستحصل المعلومات من مواقع التواصل الاجتماعي – لا سيّما فيسبوك – وتحولها إلى تصنيفات يمكن تالياً استهدافها برسائل خادعة لكنها مبرمجة لتغيير وجهات نظر الأفراد تجاه المسائل المطروحة، الأمر الذي مكّنه من صياغة رسائل بسيطة لكن مدروسة بعناية حول مسألة البريكست أقنعت الثلث المتردد من الناخبين بأن كلّ مشاكله الاجتماعية والاقتصادية ستحل فور استعادة السيطرة إلى الوطن بعد أن سلبتها منهم بروكسل. وبالفعل فإن الاستفتاء انتهى لمصلحة مناصري ترك الاتحاد لتدخل المملكة المتحدة النفق المظلم الذي تعيش فيه.كمبرباتش في الشريط الترويجي للفيلم لخص ذلك بقوله: «الجميع يعلمون نتيجة الاستفتاء، لكن قلائل فقط يعلمون كيف تحققت تلك النتيجة».
انقسام مجتمعي حول فيلم عن الانقسام
أثار فيلم «بريكست» موجة هائلة من ردود الفعل. في الولايات المتحدة اعتبره كثيرون بمثابة نسخة مخففة لكنها تمتلك كل المكونات الرئيسة للخداع الأكبر حجماً الذي مارسته حملة دونالد ترامب الرئاسيّة والتي نجحت في استعطاف الجمهور لانتخابه من خلال تقديم أدوية شعوذة سحريّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي توجه أنظار الناخبين عن مشاكلهم الحقيقيّة نحو أعداء وهميين كالمهاجرين والإسلام. لكن الآراء في بلاد بريكست ذاتها انقسمت بشدّة حول محتوى الفيلم الذي حقق أرقاماً قياسيّة من المشاهدة لدى عرضه. الصحافة اليمينية التوجهات أدانته بشكل عام بكونه نوعا من كاريكاتور ساخر وضحل لا يساعد كثيراً على فهم معمّق لمسألة معقدة مثل الخروج من الاتحاد. لكن نقاداً آخرين قالوا بأن الفيلم وثيقة تاريخيّة مهمة تمنح المواطنين العاديين الفرصة لفهم كميّة الخداع الذي تعرضوا له خلال مرحلة الاستفتاء وبالتالي توعيتهم وتكوين مستوى من فكر نقدي لديهم للتعامل مع سراب الديمقراطيّة الذي يتجرعونه كل يوم. البريكستيون المتطرفون رأوا فيه سخريّة تبسيطيّة تجعله أقرب للبروباغاندا (خاصة وأن كمبرباتش البطل الرئيس، وغراهام كاتب النص كلاهما في مواقفهما الشخصيّة معارضان للبريكست بشدّة)، بينما وصفه الصحافيّون الاستقصائيون الذين كشفوا بداية عن دور كامبريدج أناليتيكا المشبوه خلال مرحلة الاستفتاء (ولاحقاً انتخابات الولايات المتحدة) بأنه تسطيح مخل بخطورة ما أقدمت عليه أطراف في النخبة البريطانيّة الحاكمة للتلاعب بعقول المواطنين خدمة لأغراض سياسيّة قصيرة المدى.
بريكست أو لا بريكست: ليست تلك هي المسألة
الحقيقة أن الفيلم رغم أهميته في الجدل البريكستي الذي يملأ فضاءات لندن هذه الأيّام، وبعض نقاط الضعف الدراميّ أو حتى النقد على أداء كمبرباتش مقارنة بمستويات عبقريته في أدوار سابقة مثل شرلوك هولمز ، فإنه يتضمن – بحدود ما تسمح به مساحات التعبير لدى أجهزة الإعلام الغربيّة – واحدة من أفضل الشهادات على الأساليب المتطورة للتلاعب بالعقول التي هي بالفعل قيد الاستخدام راهناً وتوظفها النخب الحاكمة لتأبيد هيمنتها على الشعوب، والتي تبقى مع كل تأثيراتها الفائقة الخطورة خارج سجل الجرائم التي تحقق بها السلطات الأمنية في دول الديمقراطيّة المفرّغة. هي أشياء مثيرة للهلع لم يكن جورج أورويل نفسه – الذي تنبأت روايته الشهيرة (1984) قبل سبعة عقود بتحول المجتمعات الغربيّة إلى مشاريع استبداد هائلة يتولاها «الأخ الأكبر» – ليصدّق وجودها.
إعلامية لبنانية تقيم في لندن