الدكتور محمد ربيع محمد إبراهيم الظواهري.. عالم الكيمياء شريف النسب ورفيع الأدب
لمباركية نوّار
عندما درسنا الدكتور محمد ربيع الظواهري، رحمه الله، مقياس علم الكيمياء في جامعة قسنطينة لم نكن نعرف سوى رسمه واسمه، وكان ذلك عهدنا مع بقية الأساتذة الآخرين. ولكن اليوم، وبعد البحث والاستقصاء اجتمعت عندي معلومات تخص حياته وتاريخ عائلته ذات الشأن الرفيع. وقد مكنتني هذه المعلومات من فك بعض الغموض الذي كان يلف تصرفاته. وبفضلها استطيع، إن صدقت تخميناتي الاستنتاجية، أن أعيد اكتسابه لصفتي العزلة والانفراد إلى حياة التصوّف التي اعتنقها أفراد كثر من عائلته، ومنها والده الشيخ محمد إبراهيم. وقد يكون للتصوف الذي اعتمده هو الآخر، من باب الاحتمال، كمنهج لحياته هو ما جعله يتصرف في كل المواقف بالعفوية والرأفة والوداعة والسلاسة والعطف والتسامح والعفو. فأهل التصوّف يتصفون أكثر من غيرهم بهذه الصفات، ويزيدون عليها بتفضيل الانفراد والانصراف عن الصخب والمقلقات والخوض مع الناس، والميل إلى الزهد والتقشف في الملبس والمأكل، ومخالفة الشهوات والهوى، وتجنب إتعاب النفس بحثا عن الشهرة والمجد.
يعتبر الدكتور محمد ربيع الظواهري، رحمه الله، رجلا ناعما لا تشعر بوجوده. وعندما ترشقه عين من يراه، لأول مرة بنظرة عابرة، فلا تبصر فيه آثار العظمة الخفي، وقد تزدريه، ولا تمنحه الدرجة العلمية العليا التي يحملها؛ لأن الناس يهتمون بالمظاهر وتستهويهم إغراءات الأشكال، ويعتمدون عليها في إطلاق أحكامهم، وقلما يمنحون لأنفسهم فرصة للتثبت والاحتراس من السقوط في حفر الأحكام المسبقة والانطباعية العابرة والوقوع في شراك التقديرات الخاطئة أو المضللة.
يصعب عليّ في هذه اللحظة، وأنا أضغط على ذاكرتي كمن يعصر حبة زيتون، أن أتوصل إلى تحديد عمر أستاذنا الدكتور محمد ربيع الظواهري تحديدا يفلت من عيوب الارتيابات لما التقيته في كلية العلوم الحيوية بجامعة قسنطينة، ودرست عليه مقياس علم الكيمياء. ولا تعزى الصعوبة إلى الفاصل الزمني الذي اكتسح ما يقترب من أربعة عقود من حلقات الزمن، وإنما ترد إلى وعورة التكهن بعدد السنوات التي مرت من عمره اعتمادا على أسارير وجهه التي تداخلت وتمازجت. فبشره وجه الرجل كانت بيضاء متغضنة، ووجهه كان مملوءا مما يعني أنه مايزال محتفظا بنزر من شبابه رغم أتعاب سنوات العمر التي مرت. أما ما سلم من شعر رأسه الأملس من السقوط فلم يكن أشيب بكامله، وإنما كان خليطا بين الأبيض والأسود، أي من الملح والفلفل الأسود كما يقول المثل الفرنسي. وكان الصلع قد اكتسح أغلب مناطق رأسه، ولم يبق منه إلا مساحات ضيقة في منطقتي الصدغين وفي الخلف. ومع ذلك، فإنني استطيع القول، مع بعض التحفظات، أن عمره، حينذاك، كان يحتل منطقة وسطى بين الستين والسبعين، ولربما كفته مالت إلى جهة العدد الأعلى. وكانت عيناه جاحظتان ولكنهما تلوحان بالطيبة، وكان الجحوظ في عينه اليسرى، إن أسعفتني ذاكري، أبلغ وأوضح. وهي العين التي برزت كرتها بشكل ملحوظ من محجرها مع حول خفيف. ولم يكن يضع نظارة إلا في اللحظات التي يريد أن يقرأ ورقة عن قرب، ولا يعمد إلى فعل ذلك أمامنا إلا نادرا.
اجتمعت في جسم الدكتور محمد ربيع الظواهري صفتان متناقضتان هما البدانة المفرطة وقصر القامة. وقد سببت له البدانة مشكلات نغصت عليه حياته، وحرمته من متعة التمتع بحريته على صورة مطلقة. فهو مستطيع لقضاء بعض شؤونه بمساعدة غيره. ولا أظنه أنه يتحمل العيش لوحده من دون مرافق يرعاه ويخدمه ويقف إلى جنبه.
لم يكن الدكتور محمد ربيع الظواهري، رحمه الله، يتحرك إلا بصعوبة، ولا يستطيع أن يحمل أخف الأشياء إلا بمشقة. بل يجد عنتا حتى في الالتفات إلى الخلف إن فعل ذلك مضطرا. وحينما يمشي يسحل قدميه سحلا يسمع لهما صوت احتكاكي؛ إذ لا ترتفعان عن سطح الأرض إلا بمقدار ضئيل. وكان يفرج بين ساقيه بزاوية واضحة حتى يحافظ على توازنه ووقوفه منتصبا خشية الميلان والسقوط. ومع هذه الحيلة الفيزيائية التي للجأ إليها إلا أنه كان يتأرجح يمنة ويسرة كلما اندفع ماشيا. ولم يكن يتوكأ على العكاز الخفيف المصنوع من الخيزران الخفيف أو ما شابهه الذي يحمله إلا قليلا. وفي غالب الأوقات، كان يستعمل هذا العكاز لأغراض أخرى أكثر من استعماله كمعين على المشي. وكان يبذل كلما خطا خطوات ثقيلة وقليلة الكثير من الجهد يرغم عقبها إلى وقفة يسترجع فيها أنفاسه حتى يجدد طاقته لاستكمال ما بقي له من مشوار الطريق. والزمن الذي يقضيه في الوقوف أكثر بكثير من الزمن الذي يستغرقه في المشي.
لم يكن الدكتور محمد ربيع الظواهري يحضر إلى الجامعة أو يغادرها إلا في سيارة أجرة. ويتعذر عليه ركوب الحافلة بسبب الزحام والتدافع. وكان يصر على السائق أن يتوقف به أمام مبنى كلية العلوم. وبعد أن اكتشفنا حاله، أصبحنا نتنافس متطوعين على خدمته لمساعدته على النزول من السيارة التي تقله وعلى حمل محفظته. ولم يكن لسانه يبخل علينا بالشكر والدعاء والثناء. وكنا نعيد نفس الكرة بعد انتهائه من الشغل. وكان يشير كلما رأى سيارة نقل حضري إلى سائقها بعصاه التي يرفعها حتى يراه ويتقدم نحوه حيث يقف. وعلى هذا المنوال، ظل استقبالنا وتوديعنا لأستاذنا واجبا نقضيه، وظلت خدمته في وجودنا حلية نتحلى بها أمامه بخواطر ندية. وكان هو يدعو كل واحد منا بعبارة: “يا ابني”.
كما حرمت البدانة الدكتور محمد ربيع الظواهري، كذلك، من التمتع بالألبسة التي يمكن اقتناؤها جاهزة من المحلات إشباعا لذوقه. وبسبب ذلك، فإنه لم يكن يرتدي إلا ألبسة مخيطة عند الخياطين بعد الطلب حتى يكيفوها مع أبعاد أطراف وأجزاء جسمه. وأما حلاقة شعر وجهه، فلم تكن تجري على الوجه الأكمل. فكم من مرة أبصرت شعرات في ذقنه أو في خديه لم تقطعها شفرة الحلاقة.
يملك الدكتور محمد ربيع الظواهري محفظة سوداء كبيرة تشبه الحقيبة لا أظن أنها صنعت من الجلد. وتمتلئ تجاويفها وجيوبها بكل ما يحتاجه من مطبوعات وكتب وأقلام وأدوية ومناديل وأشياء أخرى من بينها علبة الكبريت. وكان من بين مخزوناتها ظرفان من الورق يضع في أحدهما مسحوق القهوة، ويحشو الثاني بالسكر. فقد كان مدمنا على ارتشاف مشروب القهوة التي يكلف أحدنا بتحضيره له كما سأبين بعد قليل.
كانت مقاييس علم الكيمياء العضوية من المقاييس التي ينفر منها طلبة العلوم الحيوية بسبب كثرة معادلاتها وتشابكها وتشابهها أحيانا. وكان حفظ نصف صفحة مكتوبة أهون علينا من حفظ معادلة كيميائية تعبر عن استقلاب مادة عضوية ما. وكان المقياس الواحد يتداول عليه ثلاثة أو أربعة أساتذة. وكان لكل أستاذ طريقته ومنهجه وأسلوبه. وعندما أتذكر علم الكيمياء ومشاقها وتعقيداتها أستطيع القول أن المرء ابن تخصصه العلمي. فكل أساتذتنا في علم الكيمياء كانوا ذوي وجوه عابسة ومنقبضة وشفاه مشدودة بعد أن جر عليهم علم الكيمياء ويلاته وصبغهم بصبغته المعقدة ووصمهم بانحباسه وتجعده، وخاصة أستاذنا الدكتور رمضان؟؟ الذي اندثر اسمه الكامل من ذاكرتي، ولم يبق منه إلا شقه “رمضان” الذي اشتهر به بيننا. ولربما فظاظته وغلظته وقساوة معاملته هي من كانت سببا في محوه وإسقاطه من بين محفوظاتها. وكانت الدكتورة عدلات، وهي مصرية مسيحية تقاسمه، أيضا وإن كان بدرجة أقل، نصيبا من صفات الانغلاق ووجوم الوجه والنظرة الشزرة والتعالي. أما أخوها الدكتور مجدي، فكان بحق منشرحا وودودا ومحسنا إلينا ويعمل على ترضيتنا، ولا ينزعج من أسئلتنا، إلا أننا كنا نلاحظ عليه قلة إلمامه بالمادة. وكان الدكتور محمد ربيع الظواهري هو أرأفهم بنا جميعا رغم أنه لم يكن متواصلا معنا بشكل مستمر.
لست متيقنا، ولكن يمكنني القول مع هامش من التحفظ، أن هناك شبه إتفاق عرفي نسجه أساتذتنا في علم الكيمياء فيما بينهم، واحتكموا إليه وقتذاك. فقد منحوا رياسة المجموعة إلى الدكتور محمد ربيع الظواهري احتراما لمكانته العلمية ولعمره. ونظرا لظروفه الصحية التي تصعب عليه حتى نزول سلم المدرج وصعوده، فإنه لم يكن يحاضر أمامنا. وإنما استأثر مقتنعا بتسيير الحصص العملية التي كانت تنعقد مساءً تحت إشرافه وبمساعدة واحد أو اثنين من زملائه.
من عادة الدكتور محمد ربيع الظواهري أن يوزع علينا في بداية كل حصة عملية مطبوعات لا تتعدى ثلاث ورقات يوجز فيها أهم ما تضمنته المحاضرات النظرية. وبعد أن يكلفنا بقراءتها، يحمل نفسه للوقوف أمام السبورة بغرض شرح ما عسر علينا فهمه. وبعدها يفرق علينا المطبوعات المتعلقة بالحصة العملية. ولاحظت وقتها أنه هو من يتولى كتابة كل النسخ بنفسه مستعملا ورق الكربون الناسخ. وكان يمعن في كتابة الحروف والرموز الكيميائية بخط واضح يمكن قراءتها حتى عن بعد. وبعد أن ينهي مهامه، يختار مكانا جانبيا يستريح فيه على كرسي يختاره. وبمجرد أن نشرع في العمل، ينادي أحد الطلبة القريبين منه ويطلب منه أن يحضر له فنجان قهوة على موقد من مواقد المخبر. ولا تمض دقائق حتى نشتم رائحة القهوة المغلية تعم جوف المكان متفوقة على روائح المواد الكيميائية التي نستعملها من كواشف وملونات طيارة وغيرها. ولا يكف لعاب بعضنا ممن يشتهون تناولها بعد الظهيرة من السيلان رقراقا.
لست أدري كيف وقع اختيار الدكتور محمد ربيع الظواهري علي ذات مرة طالبا مني أن أعد له فنجان قهوة كالعادة. فلبيت طلبه في أدب. وبعد أن سخنت الماء حتى قرب من درجة الغليان، سحب من محفظته كيسي مسحوق القهوة والسكر وكأسين أحدهما كبير وثانيهما صغير وملعقة وبعض الأدوية. وفي تلك اللحظة اكتشفت أن محفظة أستاذنا هي حاملة لوازم ومكتبة ومطبخ وصيدلية. لما انتشر مسحوق القهوة في إناء الماء الساخن، وسمعت صوت غليانه، ملأت له الكأس الكبير بالقهوة المحضرة، وترجاني أن أشاركه الشرب باستعمال الكأس الأخرى، فاعتذرت له حتى لا أفسد عنه لحظات تلذذه باحتساء مشروبه المفضل والتمتع بنكهته.
لا يعتقدن أحد أن الدكتور محمد ربيع الظواهري يجلس منصرفا عما ينجزه الطلبه في زمن
الحصص العملية، وإنما كان يتابعهم من بعيد ببصره وسمعه. وكان أكره ما يكره أن تقدم المعادلات الكيميائية ناقصة أو مشوهة. وكم من مرة، سمعت صوته يرتفع مصوبا ومصححا كلما بلغ سمعه خطأ صادر من أحد الطلبة… (يا بني! لا يصح هذا. فالمعادلة الكيمياية الحيوية لا تستقيم إلا في وجود مرافق الأنزيم… حرام، حرام أن تنسى enzyme ـ Co). وكانت تصويباته تصدر منه باللهجة المصرية الجميلة. وأذكر أنه ذات مرة أراد احد الطلبة أن يغادر المعمل لقضاء شأن شخصي، فجاءه واستأذن منه. ولما أذن له، أراد ذلك الطالب أن ينزع مئزره ويتخلى عنه. فنهره مع سحابة غضب خفيفة اعتلت وجهه وألزمه إبقاءه على ظهره، وهو يقول له: (لا تفعل، يا بني!، فارتداء المئزر شرف، وأي شرف؟؟). وخرج الطالب بمئزره عملا بنصيحة أستاذة. ومنذ تلك اللحظة تعلمت شخصيا أن لبس المئزر لا يعد مجرد التزام قانوني بالتعليمات المعلقة في أبواب المخابر لوقاية الألبسة من الأوساخ وما شاكلها، وإنما فيه تمييز مظهري يعلو إلى مستوى اكتساب شرف وهيبة طالب العلم. وكلما رأيت، في أيامنا، طلبة مؤسسات التعليمية الذكور يستحون من ارتداء مآزرهم، ولا يفعلون ذلك إلا أمام المؤسسات التعليمية تذكرت قولة الدكتور محمد ربيع الظواهري، رحمه الله، التي خص بها قيمة المئزر.
رغم مستواه العلمي كخبير في صناعة الأدوية، فإن الأستاذ محمد ربيع الظواهري لم يكن يعتد بنفسه متباهيا. ولكنه كان كلما وجد الفرصة مناسبة إلا وانطلق يحدثنا عن اكتشافات أخيه الدكتور محمد الشافعي الظواهري الشهير بالدكتور محمد الظواهري، رحمه الله، وهو واحد من الأطباء النطاسيين والبارعين في جامعة القاهرة بمصر وفي العالم العربي في الأمراض الجلدية. وقد تولى رياسة إتحاد أطباء الجلد العرب وتقلد مناصب أخرى اعترافا بجهوده التي سار بها في طريق المجد والشهرة. و نجح، بعون الله، في ابتكار علاجات دوائية لكثير من الأمراض الجلدية المستعصية التي أقلقت المرضى وأعجزت الأطباء، وخاصة مرض الصدفية. وأذكر أنني في تلك المرحلة كنت متعلقا ومواظبا، وإضافة إلى مطالعاتي الأخرى، على اقتناء أعداد مجلة “الهلال” المصرية لإشباع إعجابي بالمقدمات التي كان يكتبها رئيس تحريرها الشاعر الرقيق صلاح جودت الذي لا أظنه أنه ما يزال حيا يرزق. وفي أحد الأعداد قرأت بحثا طبيا عالي المستوى كتبه الطبيب محمد الشافعي الظواهري عن المرض الجلدي الذي ابتلى به الله نبيه سيدنا أيوب، عليه السلام، والذي عجز أن يجد له دواءً للبرء منه إلا الصبر الذي ضرب فيه أروع الأمثلة حتى أصبح الصبر مقترنا به، وإذا أراد أحدهم أن يبالغ ويغالي في صبره عده قطعة شقت من صبر سيدنا أيوب.
يقف الدكتور محمد ربيع الظواهري على قمة هضبة عالية من شرف النسب، ويتفيأ ظلالا
وارفة في دوحة ذات ذكر محمود في الحسب والجاه والتقوى. فهو ينتمي إلى عائلة ضربت جذورها في تربة الأثالة والعراقة من أرض العرب الأقحاح، واستطاع أبناؤها أن يكدسوا مكاسب الهمة والعز عبر قرون من الزمن. فهو محمد ربيع بن محمد إبراهيم بن مصطفى بن عبد الكريم بن سويلم الظواهري النفيعي، مما يعني أنه أصيل قبيلة النفيعات العربية التي تنتسب إلى نافع بن ثوران بن عوف بن ثعلبة من طي. والظواهرية هي أكبر فخذ من أفخاذ قبيلة النفيعات، وقد سميت كذلك لأن أبناءها سكنوا في البدء ظواهر مكة في بر الحجاز أي ضواحيها. ونزح الظواهر إلى مصر عبر سيناء التي نزلوا بها في أول مجيئهم، ثم رحلوا إلى محافظة الشرقية التي ما يزال بها تجمع سكاني ينسب إليهم، وهو: “كفر الظواهري”. وانتشروا في ما بعد في عدة مناطق من مصر. ويتصف أبناء وبنات عائلة الطواهري بالذكاء والفطنة والإجادة في العلم والاستطاعة في اكتسابه والمساهمة في الحياة العامة وبذل الصدقات في سبيل الله. فقد أحصى أحدهم في نعي الدكتور محمد الشافعي الظواهري شقيق أستاذنا الدكتور محمد ربيع الظواهري، كما ذكرت، نشرته إحدى الجرائد المصرية يوم وفاته أكثر من ثلاثين طبيبا اختصاصيا وباحثا مرموقا وعالما مشهودا له في مختلف مجالات العلوم. وأما والده الشيخ إبراهيم فهو عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف.
من بين أوجه التأثير الواضحة التي خلفتها عائلة الظواهري في الحياة العلمية والثقافية في مصر، فضلا عن مجال الطب، هو أن عم مترجمنا الشيخ محمد الأحمدي الظواهري (1887 ـ 1944م) تربع على عرش مشيخة جامع الزهر في عام 1929م. واستطاع أن يخلف بصماته محفورة ومجلوة في مسيرة هذه القلعة الدينية العتيقة حتى لقب بـ: “أبي الجامعة الأزهرية”. فهو مؤسس جامعة الأزهر الحديثة، ومنشئ مطبعة ومجلة الأزهر التي سماها “نور الإسلام” ثم حملت اسم: “مجلة الأزهر”. كما أنه تبرع من ماله الخاص لبناء إدارة الأزهر. وكان قد تنازل بحوالي ستين فدانا من ممتلكاته بعزبة كفر الشيخ الظواهري بمحافظة الشرقية من باب مكافأة من يحصل على شهادة “العالِمية” ـ بكسر حرف اللام وليس بفتحه ـ من طلاب الأزهر. وفي عهده، أرسلت وفود الدعوة إلى الصين واليابان والحبشة والسودان لنشر تعاليم الإسلام الحنيف والدعوة إلى الرسالة المحمدية الخالدة.
كان والد الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من أجل علماء الزهر الشريف. ولم يدخر جهدا في الاعتناء بتعليم ابنه، ورعايته وتعهده بالتوجيه والنصح. ولم يكن الابن ينقطع عن التردد على حلقات العلم بجامع الأزهر العظيم ولو أنه لم يكن ملتزما في متابعة دراسته فيه. وإنما كان طالبا منتسبا ومفضلا الجلوس في حلقات التعلم التي يتقدمها الشيخ محمد عبده، ولم يكن يتغيب عنها. ولما اطمأن بما في حصيلته الاكتسابية من المعارف المحصلة، رأى أن يتقدم إلى الامتحان الذي يعرف أنه ممر شاق يصعب شقه في راحة واستبسال على من لم يستوف دقائق العلوم المقررة. وكتب له أن يجلس في يوم الامتحان أمام الشيخ محمد عبده، فتسلل الخوف والارتباك إلى قلب الطالب الطموح؛ لأنه يعلم باضطراب العلاقة بين الشيخ محمد عبده ووالده. وبعد أن غمرت قلبه الثقة، وفق في الإجابة والرد عن الأسئلة مما جعل الشيخ يمتدح علمه، ويقول له: (والله إنك لأعلم من أبيك، ولو كان عندي أرقى من الدرجة الأولى لأعطيتك أياها). وقد علق الطالب المجتهد بعد أن تقدم به العمر عن هذا الموقف بقوله: (فأنت ترى، إذن، أن الشيخ محمد عبده كان رجلا قوي الرأي، وقوي الأخلاق. فبالرغم مما كان بينه وبين والدي الشيخ إبراهيم الظواهري من خلاف معروف، فهو لم يمغطني حقي، ولم يرد أن يقلل من مقدار علمي).
الشيخ الإمام محمد الأحمدي الظواهري الأزهري
لم تعجب القفزات الإصلاحية والتجديدية التي أدخل الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شكر الله سعيه، على الأزهر وعلى نظام التعليم فيه لتخليصه من قبضة التقليدية القاتلة، وجره إلى مواطن الحداثة الواعدة. وتحوّل الصراع بينه وبين خصومه ومناوئيه إلى منازعات أخذت منحى سياسيا ووجهة اجتماعية. وبعد جولات من المناكفات، اضطرته الظروف إلى الاستقالة من مشيخة الأزهر ليعيش بعدها قرابة عقد من الزمن حياة اعتزالية صوفيه في كنف الهدوء النفسي حتى وافاه أجله المحتوم في الثالث عشر ماي من سنة 1944م.
يتفق دارسو مسار حياة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ومعاينو مواقفه أنه كان يجمع بين العقلانية والوجدانية العاطفية، وسائرا على خطى والده وجده. أما آراؤه في الإصلاح والتطوير فقد استقاها من أفكار الشيخ محمد عبده. وبسبب انفتاحه، كانت صوفيته مغايرة لصوفية والده. وقد جعل من التصوف أداة للدعوة عن بصيرة وإقناع، ولمحاربة البدع والخرافات التي شوّهت وجه الإسلام.
تزوّج أستاذنا الدكتور محمد ربيع الظواهري من السيدة أميمة عبد الوهاب عزام، وبذلك قرن بين أمجاد عائلتين عريقتين ومرموقتين، وإن كانت عائلة زوجته أكثر غنى من عائلته، وسكن حي المعادي الذي يعد ضاحية قاهرية أغلب قاطنيها من أصحاب الوجاهة والثراء. وكان والد زوجته الدكتور عبد الوهاب عزام رئيسا لجامعة القاهرة، وتولى أيضا منصب مدير جامعة الملك سعود في الرياض. ثم التحق بالسلك الديبلوماسي وعمل سفيرا لدولة مصر في كل من باكستان واليمن و السعودية. وأما أخوه، وهو الدكتور عبد الرحمن عزام الذي ترأس أول أمانة عامة لجامعة الدول العربية، وسخر طاقته ووقته للدفاع عن القضية الفلسطينية في كل المحافل الدولية التي كان يدعى إليها.
انتقل الدكتور محمد ربيع الظواهري إلى جوار ربه في سنة 1995م. وقد شحت المعلومات في هذا الجانب، ولم تحملني المحاولات المتكررة إلى معرفة تاريخ وسبب وفاته؟؟. وأما زوجته وأم ابنيه وبنتيه، فقد لحقت به في يوم الأحد 20 من شهر ديسمبر 2009م بعد أن بلغت خمسا وسبعين سنة من العمر، ودفنت في اليوم الذي يليه. وذكرت الصحف أنها عانت في مرضها الأخير الذي أجبرها الدخول إلى مستشفى “السلام الدولي” في المعادي من أمراض الشيخوخة التي زادتها محن الزمن وويلات الدهر ثقلا وعذابا، وساءت حالتها الصحية بعد إصابتها بذبحة صدرية صادمة قبل أن تذهب في غيبوبة قضت إثرها.
رحم الله أستاذنا الدكتور محمد ربيع الظواهري، وجزاه بجزاء مضاعف على خدمته للعلم وعلى صبره أمام الابتلاءات.
الجزائر
