بيروت تستنجد بنسائها المبدعات

بروين حبيب …..

 

مثل كل المهن التي كان فيها الرجل سباقا لممارستها، كان عالم السينما والفن عموما مذموما في بداياته، في الأول ناضل الرجال لجعله كيانا متين القوام، قبل أن تدخله النساء باحتشام. ورغم أن الناس أحبت الفرجة، إلا أنها كانت ضمنيا تحتقر الممثل والمغني والعازف، وغيرهم.
يمكن اعتبار مسيرة المئة عام على انطلاق هذا القطاع مسيرة صعبة، تخللتها تضحيات كثيرة لا يمكن اختصارها في مقال. لكن بالمختصر، وقبل اكتشاف ما يمكن أن تدره هذه المهنة من أرباح خيالية على المستثمرين فيها، كان الفنان يخسر الكثير من أجل فنه. ولطالما اعتبِر الفن مهنة المغامرين من أجل أهداف سامية، لا يمكن تبسيطها وشرحها للعامة.
لقد تخيلتُ مسيرة القرن كاملة في وقفة السيدة تقلا شمعون، وهي تُكَرم على مسرح مهرجان سينما المرأة في بيروت، الذي كنت فيه عضوا محكما، ليس فقط لأن السيدة تقلا بالنسبة لي خرجت عن المألوف في ما تعرضه الشاشات اللبنانية والعربية، كونها من القلة التي كسرت القالب الذي توضع فيه الممثلة اللبنانية، بل لأنها حملت على عاتقها الرسالة الفنية بجدية فائقة، ورفضت أن تحيد عن التزامها ذاك، مراهنة على أدوارها الثانية، أمام نجمات الصف الأول، اللواتي اعتمدن دائما مقاييس أخرى للنجومية غير مقاييسها. الجمهور العربي العريض صنفها، رغم إطلالاتها القليلة أيضا، نجمة من النوع الأكثر سطوعا، فذائقة هذا الجمهور تبقى غير محصورة في ذوات القوام الممشوق والخصور الضامرة والخدود البارزة والملامح المرسومة بالمسطرة والقلم.
يرافق اسم تقلا شمعون أوصاف تخصها وحدها مع عدد قليل من الممثلات شبيهاتها، فهي «محترمة» و «فخامة» و «عظمة على عظمة» و»راكزة» و»ست». قد يقول البعض أن ابنة رجل دين وبيت محافظ لا يمكن أن تكون غير ذلك، لكن تاريخ التمرد في العالم يروي حكاية مغايرة عن البيوت المحافظة، التي انقلب حالها بسبب تمرد أبنائها وخروجهم عن طوق الطاعة بشكل صادم تماما. ومع هذا نحن هنا نتحدث عن فنانة لها بصمتها الخاصة، ولا يمكن إدراجها تحت خانة هؤلاء أو أولئك.
تقول تقلا في كلمتها التي ألقتها خلال الحفل: «إن من تكرمونها اليوم تشبه كل شيء إلا تقلا شمعون، سرقت مني الأنا، وانتحلت اللا أنا، التي أمامكم هي الـ»مش أنا»..» لقد تقمصت الأدوار كلها، لكن لا دور كان يشبهها ربما، لكن اتقان الدور في مهنة التمثيل لا يعني إتقانا للكذب، إنه القدرة على تكبير الصورة التي تختبئ خلف الأقنعة وفضحها بالأداء الجيد. كل الوجوه التي تقمصتها ستبقى معنا أي نعم، لكن هذا لا يعني أن تقلا الحقيقية ستموت كما قالت، وتبقى النسخة الدرامية الفنية إلى الأبد معنا.
فهل عرف الناس تقلا الحقيقية فعلا؟ وكيف صنعت هذه الجماهيرية الكبيرة لنفسها؟
لعل أول سر لنجاح شمعون هو محافظتها على وجهها الحقيقي، دون أي تصحيحات، فكثيرا ما شعرنا أنها استغنت حتى عن الماكياج لمنح بريق لوجهها أمام الكاميرا، سعيا لأن تكون ملامحها معبرة، نقلت إلينا الحزن والغضب والشرر المتطاير من عينيها، والقسوة والغرور والتكبر، كما يجب أن تكون كل هذه «الكاريكتيرات» لم يكن ممكنا أن تختار أدوار النجمة المبتسمة ليحبها الناس.
هل اختارت شخصيات خيرة أكثر لتستحوذ على قلوب المشاهدين؟ ربما فعلت ذلك في بعض أدوارها، لكنها في مسلسل «عروس بيروت» تملكت قلوبنا بعنجهية ليلى الضاهر، التي لا يمكن وصفها، ثم جاء الحب المتأخر، الحب الذي تشعر جماهيرنا بالجوع إليه، حب النضج، أو حب الفرصة الأخيرة في الهزيع الأخير من العمر. اللامتوقع مع ممثل يضاهيها في الكاريزما والتاريخ، رفيق علي أحمد، الحرقة التي تسكن قلوب شريحة واسعة جدا من مجتمعنا المحروم عاطفيا، الممكن الذي قد يتحقق بقليل من الإرادة والإصرار، ولو في خريف العمر، ولو على عتبة شتاء هذا العمر، في غياب دراما حقيقية تلامس مواجعنا، لعب الثنائي مشاهد روّت قحطنا الذي نعاني منه، لقد صنعت تقلا شمعون شهرتها من هذا اللامتوقع، ومن بريق أمل نحتاجه حتى وإن كان مجرد كذبة.

من يصدق اليوم أن بيروت التي شهدت أكبر انفجار في القرن، وأكبر أزمة سياسية واقتصادية في تاريخها، يجتمع على أرضها عدد مهم جدا من صناع السينما ونجومها، تتوسطهم نجمة حقيقية قاومت الزيف على مدى مسيرتها الفنية تدعى تقلا شمعون.

حتى لا أبالغ سأقول إن مهرجان سينما المرأة، جاء ليكون إضافة للمنجز النسائي العربي، وربما كنبض لتذكيرنا بدور بيروت الأنثى المعطاءة حتى في أقسى ظرف تمر به. منذ انطفأت أنوار هذه المدينة وأهلها يستصعبون إنعاشها بطريقة سريعة، لكن يبدو أن المرأة تجرأت لتفعل ذلك، وفيما كان البعض يصوب نظره على معرض الكتاب، الذي خيب كل التوقعات، كان مهرجان السينما يسجل علامة كاملة لمنظميه وخياراتهم. جاء جمهور السينما مباركا هذه الخطوة الشجاعة، ليقول إن المرأة لديها القدرة على بث الحياة في أي كيان يحتضر. وجب التنويه بالدور الجبار الذي قام به سام لحود لإنجاح المهرجان، متحديا كل الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، وهي أكثر قسوة من ظروف العام الماضي، في نظري، ومع هذا ظل وفيا في موعده مع المرأة باذلا هو وفريقه أقصى ما يمكن بذله للحفاظ على هذا التقليد السينمائي، من أجل بيروت ومن أجل النساء المبدعات.
نبهت المرأة الجمهور لجراحها، للتجريح الذي تتعرض له على مدى التاريخ، للطعنات التي توجه لها حين تكون منشغلة بترتيب الفوضى التي يحدثها الرجال، وعبر صوت تقلا المبلل بالدموع سمعنا الحكاية مرة أخرى، عن بيروت التي تُحرم من أبنائها، وتجرد من عباءتها البهية، كلما حاولت التهيؤ لاستقبال الحياة.
71 فيلما من 40 دولة، إضافة إلى خمس ندوات، وضيوف قدموا من كل العالم لأجل بيروت ولأجل النساء المبدعات، أكدوا أن قطاع السينما كان الأنشط على الإطلاق رغم الظرف الاقتصادي السيئ، والفواصل القاسية التي فرضها فيروس كورونا. الملاحظ أيضا أن المخرجات الشابات قدمن أفلاما جيدة وأحببن أن تكون تقلا شمعون نموذجا يمثلهن، ويمثل سينما المرأة. كان رهانا جيدا إذن، أن وقفت تقلا شمعون على ركح التكريم، حاملة في شخصها وما ترمز إليه من التزام فني وأخلاقي، لتبث رسالة المهرجان «النساء من أجل القيادة». وهو النهج الذي مضت فيه أغلب الأفلام المعروضة، كاسرة النمطية التي تعودناها في الدراما التلفزيونية خاصة، وأغلب الأعمال السينمائية التي تقدم النساء في قوالب ضيقة لا يخرجن منها إلا معطوبات روحيا وإراديا. تلك الصورة التي أصبحت تزعجنا بسبب كثرة البكاء والعويل والصراخ والشكوى والضعف، تقريبا اختفت في الأعمال المشاركة في المهرجان، وهذا يعني أن مساهمات المرأة ونضالاتها أثمرت، وها هي تسجل تقدمها عبر تاريخ السينما.
لقد بدأت المرأة عموما رحلتها السينمائية الطويلة أمام الكاميرا، ثم عملت خلفها وبجانبها، لكن التاريخ الرسمي – إن صح التعبير- نسيها أو أخفاها بشكل مقصود، وأخفى بانتظام أسماء وأعمالا وممارسات، لكن إصرار النساء على خوض تجاربهن، جعلهن يتقدمن في صمت نحو مزيد من المساواة والاعتراف.
في عام 1914 صورت أول امرأة فيلما طويلا في الولايات المتحدة، كانت في البداية ممثلة وعازفة بيانو وسوبرانو، ثم أنشأت شركة إنتاج واستوديوهات خاصة بها، وظلت لسنوات طويلة صانعة الأفلام الوحيدة التي تجلس إلى جانب مخرجين رجال، كانت المرأة بعيدة آنذاك لا تزال تُعامل وفق قاعدة «كوني جميلة واصمتي».
في الجانب الآخر من العالم، حيث كانت النساء جزءا من متاع الرجال، كانت قلة نادرة من النساء يناضلن – مثل سهير القلماوي – من أجل تعليم الإناث، ورفع المظالم عنهن. منذ تلك الأيام إلى هذا اليوم البهيج، تعثرت النساء كثيرا ونهضن، اصطدمن بتيارات رجعية، وبأفكار اجتماعية متحجرة، حرمت كثيرات من تحقيق أحلامهن، وتم مع سبق الإصرار والترصد إهدار ذكائهن وطاقاتهن ومواهبهن في زيجات فاشلة، دفنتهن قبل موتهن.
من يصدق اليوم أن بيروت التي شهدت أكبر انفجار في القرن، وأكبر أزمة سياسية واقتصادية في تاريخها، يجتمع على أرضها عدد مهم جدا من صناع السينما ونجومها، تتوسطهم نجمة حقيقية قاومت الزيف على مدى مسيرتها الفنية تدعى تقلا شمعون. إنه اللبناني المبهر الذي يتقن مصادقة الحياة، وهذه طريقته التي تشبهه في المقاومة والبقاء.

شاعرة وإعلامية من البحرين

قد يعجبك ايضا