أشخَاصٌ فِي ذَاكِرَتِي أطِبَّاء في القامشلي: ماروكي لَحدو مَلكي/ طبيب (الدَّندرما)

ميَّادة مهنَّا سليمان…..

 

كان طبيبًا متفانيًا، ذا صيتٍ حسنٍ في علاج المرضى، وكنتُ دائمةَ التهاب الحلقِ في القامشلي بسبب الجوِّ الجافِّ، فكنتُ أزورُ الدُّكتور ماروكي لثقتي الكبيرة به كطبيبٍ يحترمُ مهنتهُ.
أمَّا (طبيبُ الدَّندرما) فهذا ما أسميتهُ بهِ بعد قصَّةٍ مؤلمةٍ، وظريفةٍ في الوقتِ نفسهِ حدثَت معنا.

ولعلَّكم تتساءلونَ ما معنى هذه الكلمة، ولا أدري إن كانت هذه الكلمةُ معروفةً في مدنٍ أخرى غيرِ مدينةِ القامشلي، ولكنَّ كلَّ ما أدريهِ أنَّ هذه الكلمةَ كادتْ تودي بحياةِ ابنتي رغد، فقد أجرينا لها عمليَّةَ استئصالِ اللوزتينِ عندما كانتْ في الصَّفِّ الثَّاني على يدِ طبيبٍ مدحهُ النَّاسُ كثيرًا اسمُهُ( ماروكي)، ولم أكن وقتَها أتعالجُ عندَه من التهابِ الحَلقِ.

فكانَ أن أجرى العمليَّةَ لابنتي، وعندما انتهى، قال لنا يجب ألّا تأكلَ شيئًا لمدَّةِ أسبوعٍ، تشربُ فقط السَّوائلَ، وكتبَ مايلي:
(سوائل، كوكتيل فواكه، كوكتيل حليب، دندرما.)
ولم نسألْ عن معنى الكلمةِ أنا وزوجي، لاعتقادِ كلٍّ منّا أنّ الآخرَ يعرفُ.

عُدنا إلى المنزلِ، وأردتُ أن أحضِّرَ لها شيئًا، فسألتُ زوجي: ما معنى دندرما؟
فقال: ظننتكِ تعرفين، أنتِ تختلطينَ بالعامَّةِ أكثرَ منِّي، أنا لا أدري!
فقلتُ: لعلَّها نوعٌ من العصائرِ، وحضَّرتُ لابنتي كوكتيلَ الموزِ، والحليبِ.

وبعد ثلاثةِ أيّامٍ تحسَّنتْ قليلاً، وكانتْ أمِّي رحمها اللهُ في زيارةٍ عندي، ولمَّا اطمأنَّت على حفيدتِها سافرت.
في اليومِ التَّالي ذهبتْ ابنتي للنُّوم في السّابعةِ مساءً، وعندالثَّالثةِ فجرًا صرختْ، وسعلَتْ، فهُرعنا إليها،
عندما دخلْنا، قالت: بطني يؤلِمني جدًّا!
قام أبوها بإطعامِها ملعقةَ عسلٍ، والحمدُ للهِ أنّهُ فعلَ ذلك- فالعسلُ يطردُ السُّمومَ من الجسمِ، وكُنَّا نظُنُّ أنَّ
ألمَها بسببِ البردِ، فقلتُ لها: غطِّي نفسَكِ جيِّدًا، فالجوُّ
باردٌ، ونامي، ولم أكدْ أنهي كلامي حتَّى استفرغَت دمًا
ملأََ السّريرَ.

كانَ شيئًا مرعبًا، ومؤلمًا، ومازادَ ألمي أنَّها وضعت يدَها الصَّغيرةَ على فمِها كي لا يتَّسِخَ سريرُها.
في هذه اللحظاتِ الّتي أرجو ألّا يُذيقَها اللهُ لأحدٍ، ظننتُ أنَّني سأخسرُها.
اتَّصلَ زوجي بالطّبيبِ الّذي ذُعرَ، وطلبَ إحضارَها إلى عيادتهِ فورًا. هناك عاينَ جرحَها، وقال:
هناكَ قطبةٌ تنزفُ منذُ ساعاتٍ، لهذا امتلأَ بطنُها دمًا، واستفرغتْ، ومن فضلِ اللهِ أنَّها فعلتْ ذلكَ.
ثمَّ أردفَ: غريبٌ ما جرى معها، لمَ لمْ يتخثَّرِ الجرحُ، ألم تُطعماها بوظةً؟
فقلتُ: لقد أجريتُ هذه العمليّة في مثل سِنِّها تقريبًا، وكانَ أوَّلُ شيءٍ وصفَهُ الطّبيبُ “البوظةَ”، واستغربتُ أنَّكَ لم تفعلْ ذلكَ! فقال: بلى، كتبتُ على الورقةِ، فأخرجتُها من حقيبتي وأريتهُ إيَّاها، فأشارَ إلى كلمة “دندرما”
وقال: ها هيَ، أنظري.
لا تسألوني عنْ شعوري وقتَها، حين اكتشفتُ أنَّ الدَّندرما هيَ البوظة!
فقلتُ لهُ: أنتَ تعلمُ أنَّنا لسنا مِن هذهِ المحافظةِ، فكيفَ لنا أنْ نعلمَ أنَّ الدَّندرما (بوظة)؟
قال زوجي: ثمَّ إنَّنا لم نسمعْ أحدًا هُنا يقولُها، ووافقْتهُ
الرَّأيَ، فعقَّبَ الطَّبيبُ قائلاً:
في الحقيقةِ لم تعُدْ تُستخدمُ كثيرًا، وعلى الأغلبِ يعرفُها أهلُ القرى فقط، ولا أدري كيف كتبتُ لكُما ذلك! لعَلَّ المرءَ يحِنُّ إلى الكلماتِ القديمةِ المترسِّبةِ في لاشعورِه!

على أيَّةِ حالٍ، كانَ هذا غلطي.
فقلتُ: وكان غلطُنا أنَّنا لم نسألْ عن معنى كلمةٍ لا نعرفُها.
فاعتذرَ منَّا، وانتظرْنا حتَّى زالَ الخطرُ عن ابنتي،
وعدنا بها إلى المنزلِ، ورغمَ تحسُّنها إلَّا أنَّني بقيتُ عدَّةَ أشهرٍ كلَّما سعَلتْ، أُُصابُ بذعرٍ، وأخافُ أنْ يتكرَّرَ مشهدُ الدِّماءِ الَّتي رأيتُها على سريرِها.

ختامًا: من قلبي تحيَّة كبيرة للدُّكتور القدير ماروكي.

ميَّادة مهنَّا سليمان

قد يعجبك ايضا