روســــــيا تعــــــود من جديد إلى الشــــــرق الأوســـــــط
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات….
إن الشرق الأوسط أصبح في الوقت الراهن ، وسيظل ، مقياس نجاح أو فشل قيادة الولايات المتحدة الأميريكية للعالم ، وبالقدر ذاته يمثل الحضور الروسي مجدداً في هذه المنطقة من العالم مقياس نهوض القوة الروسية وقدرتها على إثبات وجودها في مواجهة التحدي الأمريكي على الصعيد العالمي ، إن علاقات روسيا بإيران وتركيا وبعض الدول العربية هي التعبير الحي عن هذه الحقيقة ، وهي الأساس الواقعي لبحث مستقبل التعاون الإستراتيجي بين روسيا والشرق الأوسط ·
لقد انطلقت السياسة الخارجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط في الفترة الماضية نظريا من البيئة الإستراتيجية أي من وحدة المجال الحيوي بما يضمن وحدة الأراضي الروسية ، لذلك ركزت الجهود على المحيط المباشر وعلى الجمهوريات الإنفصالية ، وذلك على حساب الجيوبولتيك الأبعد ومنه الشرق الأوسط ، وهي عندما تبدو إهتماماً بالعالم الإسلامي والشرق الأوسط على وجه الخصوص ، فهي تأخذ في الإعتبار أوضاعها الداخلية لا سيما مع الإسلام الروسي تحديداً ، وإسلام الجمهوريات القريبة المجاورة ، وفي ظل المتغيرات ألتي يشهدها النظام الدولي وضمن إعادة ترتيبه ،فانتقلت السياسة الخارجية الروسية من مرحلة الدفاع عن أمنها القومي إلى مرحلة الإستعداد للعب دور أكبر في النظام الدولي انطلاقا من :
أولاً : تحقيق روسيا إختراقات ونجاحات في ضمان أمنها الإقليمي المباشر زيادة على التفاهم القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية .
ثانياً : تعافي روسيا إقتصاديا نتيجة للوفرة التي تحققت بسبب إرتفاع أسعار الطاقة مما جعلها تتخلص من نسبة كبيرة من ديوناتها الخارجية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي .
ثالثاً : التفاهم بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بحيث تحتفظ كل دولة بهامش مناورة وتنافس في المصالح المشتركة بينهما .
إنطلاقاً من هذه النقاط الثلاثة المهمة يمكن القول إن السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط بدأت تأخذ شكلا مختلفا وكانت الزيارات الدبلوماسية للرئيس بوتين في الفترات السابقة إلى دول شرق أوسطية وأخص بالذكر هنا لسوريا تحتضن عدة ملفات ثقيلة يدل على هذا التغيير ، حيث ركزت هذه الزيارات على البعد الإستراتيجي للعلاقات بين البلدين وأظهرت حراكا روسيا تجاه الشرق الأوسط قد لا يتلاءم مع توجهات الإدارة الأمريكية خصوصاً في ما يتعلق بإحتمال التعاون في مجال الطاقة النووية وصفقة الأسلحة الروسية إلى سورية ، الأمر الذي يجعلها تتعرض لبعض التجاذبات من قبل الإدارة الأمريكية ، فالسياسة الخارجية الروسية في الفترة الحالية وأقصد هنا ( أوكرانيا ) بحاجة إلى مزيد من المراقبة والمتابعة ، حيث طرأت عليها تطورات مهمة خصوصا بعد الكشف عن مذكرة روسية تدعو إلى إنتهاج موسكو سياسة خارجية تستند إلى المصالح لا إلى مفهوم الصديق والعدو ، كما دعت إلى إقامة موسكو علاقات أفضل وشفافة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي من أجل تشجيع الإستثمارات الخارجية ، ومن هنا نستطيع أن نفهم الموقف الروسي من العقوبات الدولية المفروضة على إيران ، وهذا كله يبدو منسجماً مع السياسة الواقعية الروسية التي تخدم المصالح وجعل السياسة الخارجية قوة دفع لجلب الإستثمارات الخارجية ، وإنطلاقاً من هذا فإن معالم الدور الروسي المقبل في الشرق الأوسط سيكون محصورا في الإطار الجيوإقتصادي أكثر منه في الطابع الجيوسترإتيجي ، حيث ستحاول روسيا الإستفادة من التطورات التي يشهدها النظام الإقليمي الجديد الصاعد في المنطقة ، إلا أنه لا يجب توقع دور روسي كالدور الذي كان يلعبه الإتحاد السوفياتي ليس فقط لإختلاف المقومات والإمكانيات الروسية الحالية عن تلك التي كانت متاحة للإتحاد السوفياتي ، ولكن وهذا هو الأهم أختلاف رؤية القيادة الروسية للدور الروسي دوليا وإقليميا وربطها بين هذا الدور والمصالح الروسية وإنطلاقها من منطوراً تعاونياً وليس تنافسياً مع الولايات المتحدة الأمريكية ، ومع أن التناقض الإيديولوجي أنتفى بين الولايات المتحدة وروسيا بإنهيار الإتحاد السوفياتي ، ورغم وجود مصالح و تفاهمات مشتركة بين البلدين ، إلا أن التناقض الحضاري والمصلحي مازال قائما ، ومن ثم فإن الصراع الدولي سيستمر بينهما وسيكون أكثر وضوحا في منطقة المجال الحيوي لروسيا المتمثلة في جمهوريات روسيا السابقة ، حيث ثاني أكبر إحتياطي نفطي بعد منطقة الشرق الأوسط في منطقة بحر قزوين ، فالصراع الحالي والمستقبلي هو صراع على مصادر الطاقة ، وهذا ينطبق على الشرق الأوسط مع أن روسيا تمتلك الإرادة لعودتها إلى النظام الدولي أيا كان شكله ، وقد تفضله متعدد الأقطاب يقوم على إطار تعاوني وليس تنافسي ، ولكن ذلك لا يقف عند الإرادة الروسية بل يخضع لجملة من المتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي يفرضها النظام الدولي الجديد .
أن روسيا الموجودة دائما في الشرق الأوسط تريد عودة جديده بناء على إرثها السوفياتي القوي في المنطقة ، فى وقت قد طرقت عدة دول أبواب موسكو في العقدين الماضيين لتشجيع روسيا على لعب دور في المشهد الدولي وملفاته الشرق أوسطية ، دور كان يلعبه الاتحاد السوفياتي سابقا لبضعة عقود ، ما خلق نوعا من التوازن في الشرق الأوسط وكابحا للإندفاع الأمريكي وانعكساته الإنفرادية في المنطقة ، لقد كانت موسكو في العقدين الماضيين منشغلة بهمومها وإعادة ترتيب أوراقها بعد غياب الشمس عن إمبرطوريتها السوفياتية ، ولم تنجح روسيا في السنوات الماضية في محاولتها للعودة إلى منطقة الشرق الأوسط ، كما كانت قد أعلنت نيتها في أستعراض عضلاتها إصطدمت بأحادية القطب الأمريكي الذي تشكل بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وتفككه ، فكلما كان النفوذ الأمريكي يتقدم في الشرق الأوسط ومحيط روسيا الحيوي كان يقابله تراجع نفوذ موسكو في كل ملف بدءاً من عملية السلام فى الشرق الأوسط ألتي تراوح مكانها ، حيث كانت تشارك مع واشنطن في رعايتها خلال عقد التسعينيات مروراً بالحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 وانتهاءاً بعدم قدرة موسكو على تنظيم مؤتمر متابعه للإجتماع الدولي الذي عقد في أنا بوليس في نهاية 2007 ، وهذا ما جعل روسيا تنظر إلى نفسها بطريقة مختلفة ، وبعد أن أنتهت من ترتيب الوضع الداخلي على صعيد إعادة بناء الدولة على أساس إقتصاد السوق بدلا من مركزي التخطيط ،انتقلت بعدها إلى ترتيب الحديقة الخلفية ومجال النفوذ الحيوي في القوقاز والشيشان وآسيا الوسطى والدول المستقلة من الإتحاد السوفياتي ، ثم إنتقلت إلى الشرق الأوسط لتقديم التفكير الروسي الجديد والعمل على تفعيل الحوار الجديد المتمثل في الحوار السياسي متعدد الأبعاد والتفكير في إقامة نظام عالمي عادل يقوم على سيادة القانون الدولي ومساواة كل الدول الصغيرة والكبيرة والتعامل بينهما من أجل حل القضايا العالمية بما فيها التحديات والأخطار الجديدة التي يواجهها العالم في هذا القرن الحادي والعشرين ، ويرى بوتين صاحب الخلفية الأمنية أن ما يتصدر جدول أعمال المجتمع الدولي اليوم هو مهمة إقامة نظام عالمي جديد عادل ومستقر تفرض فيه تعددية الأقطاب وواقعها أكثر فأكثر على كل المستويات في السياسة والأقتصاد والعلاقات الدولية والشؤون المالية ، وتتقدم إلى مكان الصدارة ضرورة البحث الجماعي عن أساليب مواجهة التحديات والأخطار الشاملة ، فروسيا تسعى إلى نظام عالمي جديد تريده متعدد الأقطاب ولاشك في أنها تدرك أن تعددية القطب تفرض أن العلاقة قائمة على أساس المصالح وليس الإيديولوجيا كالإقتصاد والصفقات والعقود ، وليست العقيدة والإيدولوجية ، إنها علاقة مهمة في حد ذاتها وليس لأنها ضد الآخر سواء كان إقليميا أو دوليا ، كما تعلم روسيا أن أحد مفاتيح المساهمة في اللعبة الدولية موجود في الشرق الأوسط وأحد مفاتيح الشرق الأوسط موجود في دمشق الحليف السابق لروسيا ، فسوريا هي إحدى عواصم القرار في المنطقة لأنها تطل على الملفات الأساسية في المنطقة كملف العراق وموضوع وجود قوات أجنبية وأنسحابها وعقود النفط الهائلة ومشاريع إعادة الإعمار لسوريا ، وهناك جبهة الصراع العربي الإسرائيلي وما يجري في القدس الشريف من أنتهاكات ، وملف إستقرار الشرق الأوسط جاذب النفوذ والصراعات الدولية ، كما لا ننسى بأن روسيا عضو في اللجنة الرباعية الدولية كانت إنفردت بفتح حوار مع حماس بعد فوزها في إنتخابات 2006 خاصة وأن الدول الغربية تطلب من حماس التزام مبادئ الرباعية بالإعتراف بإسرائيل والأتفاقيات الموقعة معها ونبذ العنف ، حركة المقاومة الإسلامية حماس لم تفعل لكن الحوار معها أستمر من قبل روسيا ، فزار خالد مشعل روسيا أكثر من مرة بناء على طلب من بوتين ، والشيء الممكن هو أن روسيا رفعت مستوى الحوار مع حماس لأسباب داخلية وخارجية أولا ضمن سياق العودة الروسية لإستعادة الدور على الساحة الدولية .
إن موسكو المنزعجة من عدم حصول مؤتمرها للسلام بسبب التفرد الأمريكي وتهميش دورها في عملية السلام تريد أن تقول إنها الوحيدة القادرة على التحدث مع جميع الأطراف الفاعلين والمؤثرين في المنطقة ، فعلاقتها مع ( حماس ) هي مكسب وليس عبئا تريد أن تقدم نفسها كحاجة في اللعبة الدولية و كلاعب ضروري وليس شاهداً ، وأن الحرب التي تشنها ضد المتطرفين الإسلاميين ( الإرهابيين ) ليس حربا ضد الإسلام ، حيث أنها تقيم علاقة خاصة مع حركة مقاومة ذات بعد عالمي إسلامي ، كما أن روسيا من جهة ثانية تقوم بإقامة علاقات مع تركيا وتوقيع العديد من الإتفاقيات الإقتصادية معها يزيد دورها الإقليمي وتحاور تركيا في العديد من الملفات السياسية والأقتصادية والأمنيه وملف عودة اللاجئين السوريين في تركيا ، والنتيجة أن روسيا موجودة دائما وواقع الحال يقول إن العالم يتغير ، فهناك نظام الحرب الباردة الذي جمع واشنطن وموسكو في القرن الحالي ، وكانت الدول الإقليمية تحجز أدوارها تحت ظلاله ، ولا هو أحادي القطب الذي ظهر في العقدين الماضيين عندما كانت الدول الصغرى تميل أمام العواصف الأمريكية الهوجاء ، كما أن هناك دوراً متزايداً لقوى كبرى مثل الصين والهند ، كما لا يمكن تجاهل وتزايد دور تركيا وإيران وسرية الشراكة في هذا التعاون الإقليمي ، وروسيا تريد اليوم تعظيم شبكة علاقتها لتقوية موقفها الدولي وخاصة في حربها ضد ( أوكرانيا ) .
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات