الرّمزيّة في قصّة (ذكريات مستعملة)
ميَّادة مهنَّا سليمان ..
الرّمزيّة في قصّة (ذكريات مستعملة)
* العنوان:
عنوانُ القصّةِ كلمتان تُحيلنا كلُّ كلمةٍ إلى تساؤلٍ؛ فالكلمةُ الأولى (ذكرياتٌ):
وكما هو معلومٌ الذّكرياتُ تعني الأحداثَ والأشياءَ التي حدثت في السّابقِ، وتأتي عبر الذّهنِ بعدَ فترةٍ من الوقت.
قد تكونُ هذه الذّكرياتُ إيجابيّةً أو سلبيّةً، وتكونُ بمثابةِ ذاكرةٍ تخزّنُ ما حدثَ في الماضي لتذكّرنا به في المستقبل.
فما الذّكرياتُ الّتي يقصدُها الكاتبُ في قصّتهِ، هل هي مبهجةٌ، أم حزينةٌ؟
وتأتي الكلمةُ الثّانيةُ (مستعملةٌ):
نسمعُ بثيابٍ مستعملةٍ، وأغراضٍ، وكتبٍ مستعملةٍ، لكن لم يسبق أنْ سمِعنا بذكرياتٍ مستعملةٍ، ونتساءلُ مجدّدًا:
ما الّذي قصدهُ الكاتبُ؟
نقرأ السّطرَ الأوّلَ منَ القصّةِ فنجدهُ قدِ ابتدأ بقولِه:
“في جو صيفي خانق، أواصل سيري عبر الشوارع ذهابا، و عودة، متفحصا وجوه المارة، و ما طبع عليها من علامات الأسى و العبوس. لا أحد يضحك في تلك المدينة..”
فالكاتبُ يضعنا مباشرةً في أجواءِ القصّةِ، بلا مقدّماتٍ، ولا تمهيدٍ، ربّما لأنّ قسوةَ ما يريدُ إخبارَنا بهِ لا تحتملُ تمهيدًا، ولا تقديمًا، ونستشعرُ ذلكَ من خلال “خانق”، فلا تكفي حرارةُ الصّيفِ، لتكونَ عبئًا على النّاسِ، بل أضافَ إليها كلمةً تُشعلُ فتيل التّساؤلاتِ في ذهنِ القارئ، ونلحظُ استخدامَ الفعل(أواصلُ)، إذن السّيرُ ذهابًا، وإيابًا وتفحّصُ وجوهِ المارّةِ هيَ عادةٌ يوميّةٌ يواظبُ على فعلِها.
ولكنْ لمَ يفعلُ ذلك، هل هو المللُ، أم الفضولُ؟
ثمَّ نقرأ معهُ وصفَ أولئكَ الأشخاصِ المتعَبين، فنراهُ يستخدمُ كلماتٍ، وتراكيبَ تتلاءمُ مع وصفِ حالاتِهم الحزينةِ مثل:
(مُطرِقين، الشّحوب، الصُّفرة، رائحة يود نفّاذة، الانكسار، الصّمت، الشّرائط اللاصقة، رؤوس منتفخة..” يقول:
“أستطيع أن أميزهم بسهولة بمجرد أن تقع عيني على أحدهم؛ فهم في الغالب يسيرون مطرقين، تتلون جلودهم بالصفرة و الشحوب، تفوح من جلودهم رائحة يود نفاذة، أعينهم مشبعة بالانكسار، يلفهم الصمت…. تطبق على شفاههم الشرائط اللاصقة، و يحملون فوق أكتافهم رؤوسا كبيرة، تشبه الحقائب المنتفخة، عادة ما أجد داخلها ضالتي..”
حتّى الآنَ لم نتبيّنِ سببَ مراقبتِهِ لهُم، إلى أنْ يقولَ:
“فأنا عازف ناي، اعتدت أن أشتري من أولئك المارة المتعبين ذكرياتهم القديمة المستعملة، و التي بدورها تمنحني الرهافة، ….. أعزف؛ فتخرج ذكريات المارة، و تأخذ طريقها إلى سلتي، و في غمرة العزف و المبادلة؛ يكسو الريش جسدي شيئا، فشيئا. و ما إن تمتلئ سلتي…حتى تطبق الشوارع علي صدري… عندئذ أضرب بجناحيَّ الهواء كعصفور هارب، و أظل طليقا أجوب السماء إلى أن أستهلك ذكرياتي المشتراة…. فأعود مرغما… برفقة نايي الصامت، و عصفور في قلبي جريح.”
وبذلكَ توضّحت لنا فكرةُ العنوانِ، ومغزى الذّكرياتِ المستعملةِ، فهو يقايضُهم:
يأخذُ أحزانَهم، ويهديهم ألحانًا جميلةً تهدّئُ نفوسَهم، وحين تمتلئُ سلّتهُ بالذّكرياتِ الأليمةِ، يحلّق عاليًا، فيستهلكُ هذه الذّكرياتِ الباليةَ، ليعودَ من جديدٍ إلى العزفِ على نايهِ، وإلى شراءِ همومِ النّاس.
* رمزيّةُ النّايِ:
بالعودةِ إلى كلمةِ (ناي)، نذكرُ أنَّ آلةَ النّايِ آلةٌ قديمةٌ، فقد عثرَ المؤرّخونَ في نقوشِ العصورِ الأولى التي تقدّمت الملك مينا عام ( 3400 ق. م) على صورٍ لآلاتٍ موسيقيّةٍ كثيرةٍ، مثلَ صورةِ النّايِ الطّويلِ ذي الثّقوبِ العديدةِ، وصورةِ مصريٍّ يعزفُ بالنّاي.
وإنَّ استخدامَ (النّاي) كرمزٍ شاعَ سابقًا، فهوَ رمزٌ شعريٌّ تردّدَ كثيرًا في الشّعر، العربيّ والعالميّ، ونجدهُ بكثرةٍ عند طاغورَ، وعندَ جبرانَ، وقدِ استخدمتُهُ مرّتينِ في ومضاتي الشّعريّة، أقولُ في إحداها:
كُلُّ مَنْ رَأَىْ قَلْبِيْ
ظَنَّهُ نَايًا
فَقَدْ ثَقَّبَهُ
الحَنِينُ
فالنّايُ بأنينهِ، وألحانهِ، وشَجوهِ، وموسيقاهُ الّتي تنسابُ من الحبِّ الإنسانيِّ، تثيرُ السّكينةَ والبهجةَ في النّفسِ الإنسانيّةِ، ولعلّ هذا ما جعلَهُ يحظى باهتمامِ الأدباءِ، ولعلّ هذا أيضًا ما جعلَ الكاتبَ يُفضّلهُ على غيرهِ من الأدواتِ الموسيقيّةِ، ومثلهُ فعلَ سابقًا الكاتبُ (عبد عون الرّوضان) في مجموعتهِ القصصيّة (قفصٌ من فضاءٍ)
كما استخدمهُ (خليل حاوي) في ديوانهِ
(النّايُ والرّيحُ)، و عن رمزِ النّاي يقول الدّكتور عزّ الدين إسماعيل:
” …فالنّاي هو آلةٌ موسيقيّةٌ معروفةٌ، و مساقُ هذه اللفظةِ المألوفةِ في التّعبيرِ الشّعريّ يوحي دائمًا بالمشاعرِ الرّقيقةِ، لأنّ النايَ بطبيعتهِ لا يُخرجُ إلّا ألحانًا شجيّةً”
ونعودُ إلى نايِ الكاتب في قصّتهِ (ذكريات مستعملة)، ونتساءل:
ما جدوى مقايضةِ الكاتبِ للآخرينَ المهمومينَ بألحانهِ، وهل خفّف عنهم؟
ربّما خمّنَ الكاتب تساؤلًا كهذا فنراهُ يجيبُ بقولهِ:
” بت غير مضطر إلى عزف اللحن إلى آخره، يكفيني فقط أن أعزف مطلعه؛ فتخرج الذكريات السجينة…
و تأخذ طريقها إلى سلتي الفارغة. و بعد أن تتم المبادلة أراهم يمضون إلى حال سبيلهم، و قد ارتسمت ابتسامات شاحبة على شفاههم التي تحررت من شرائطها للتو. و من وقت إلى آخر أراهم يلتفتون إلى الوراء برؤوس عادت مرة أخرى إلى حجمها الطبيعي؛ فأبصر في أعينهم نظرات الامتنان، تمتد إلى نايي، الذي خلصهم- و لو مؤقتا- من عذاب اجترار الذكريات.”
إذن: العلاجُ بشراءِ الذّكرياتِ المستعملةِ من أصحابها كان فعّالًا، ولو مؤقّتًا، وهذا ما جعلَ الكاتبَ يشعرُ بالرّضا عن نفسِه، وعن عملِه في تحريرِ الهمومِ الحبيسةِ في رؤوسِ أصحابِها.
* شخصيّات القصّة:
يبدأ بعدَ ذلكَ الكاتبُ في تعريفِنا على شخصيّاتِ أيّامهِ العابرةِ، فيعطينا مثالًا عن رجلٍ عجوزٍ أودعهُ أبناؤهُ في مأوىً للعجزةِ، كان المسكينُ يرى من شرفتهِ عجوزًا آخرَ في مثلِ سنّه، على الشّرفةِ المُقابلةِ لهُ، ذاكَ العجوزُ يسمعُ الموسيقى على كرسيّهِ الهزّازِ، ويسقي الورودَ الّتي زرعهَا أبناؤهُ من أجلِه، ممّا جعلَ العجوزَ يهربُ من دارِ العجزةِ، وهنا يأتي العلاجُ الرّوحيُّ على يدِ عازفِ النّايِ، حيث يقولُ:
” أذكر أنني بعدما أفرغت رأسه من ذكرياته الموجعة، أقنعته بشق الأنفس أن يعود برفقتي إلى دار المسنين، و منذ ذلك اليوم واظبت على زيارته إلى أن فارق الحياة، برأس خال من الأوجاع، و قلب طالما ابتهج بباقات الورد، التي داومت على إهدائها إياه.”
وبعدَ قصّةِ العجوزِ الأليمةِ، تأتينا قصّةٌ أكثرُ ألمًا هي قصّةُ امرأةٍ يفارقُ زوجُها الحياةَ وهو يعملُ في البناءِ، تاركًا لها أربعَ بناتٍ صغيراتٍ، تُدهسُ إحداهُنَّ، فيبدأ الجميعُ بتوبيخِ أمّها، فهم يجهلونَ معاناتِها، وهنا يعيدُنا الكاتبُ إلى الوراء، ليريَنا كيفَ ماتَ زوجُها، ويشرحُ لنا معاناتِها مع بناتِها:
” ذكريات المرأة تتلاحق، و سلتي تكاد تمتلئ… فأبصر الطفلة الكبرى ذات السنوات العشر، تمد يدها إلى المارة في الشارع ببضاعتها الرخيصة: علب المناديل و اللبان؛ فيرمقونها بتأفف و استعلاء…. بينما كانت أمها على الرصيف المقابل تفعل مثلها،
و تتلقى الإهانات ذاتها، في حين كان هناك ثلاث بنات، يكسو الزغب جلودهن، يتعلقن بذيل جلبابها الأسود..”
وهنا يظهرُ الكاتبُ ليسَ فقط كمعالجٍ روحيٍّ عن طريقِ نايهِ، بل كساخطٍ، ولائمٍ للنّاسِ، والمجتمعِ، ومتألّمٍ على حالِ النّساءِ اللواتي تدفعهنَّ ظروفُ الحياةِ إلى العملِ، يقولُ:
” لا أحد يضحك في تلك المدينة، و لا أحد يشعر بآلام الأم و بناتها.
أبصر الأم، و طفلتها غارقتين في الحيرة و العجز، أبصر الأم و طفلتها مثل طائرين نحيلين يلتقطان رزقهما الشحيح من بين فكي تمساح..
أرى سيارة يقودها شاب أرعن بسرعة جنونية، و أرى الطفلة تدهس..سلتي تنتحب، و نايي ينوح، و المرأة تروي الإسفلت بدموعها الغزيرة..”
* الخاتمة:
يفاجئُنا الكاتبُ في ختامِ قصّتهِ بأنّهُ لكثرةِ ما استمعَ إلى همومِ النّاسِ، ومشاكلَهم، أصيبَ بصداعٍ شديدٍ، حتّى أنّ نايهُ أصيبَ بالخرسِ، ربّما لهولِ ما رأى الكاتبُ، ولكثرةِ ما عزفَ النّايُ ألحانًا شجيّة، وهنا يعلنُ الكاتبُ أنّهُ في حاجةٍ إلى عازفِ نايٍ آخرَ يعزفُ لهُ، ويشتري منهُ همومَهُ، لعلّهُ يمنحهُ سعادةً مؤقّتةً يقول:
“رأسي يؤلمني بشدة، يكاد الصداع يمزقه، أشعر بأنني أحمل فوق كتفي بالونا منتفخا…يبدو أنني في حاجة ماسة إلى العثور بشكل فوري على عازف ناي آخر، يوافق على شراء ما يختزنه رأسي من ذكريات حزينة مستعملة مقابل مزيج من الشجن و الرهافة.. ”
* الأسلوب والمفردات:
استخدم الكاتب مفرداتٍ تتناسب مع حالات شخصيّاته، وأوصافها، وجاء أسلوبه في الكتابة بسيطًا خلا من التّراكيبِ والكلماتِ الصّعبةِ، أو الوصفِ المبالغِ فيهِ، لأنّه يصوّر لنا من خلال حروفهِ معاناةَ الطّبقة المهمَّشةِ، والمسحوقةِ في المجتمعِ، فمن غيرِ المنطقيِّ أن يستخدمَ لغةً باذخةً، وألفاظًا تحتاجُ إلى معاجمَ، أمثلة على ذلك:
“في الآونة الأخيرة راجت الأحزان، و ضجت الشوارع بأصحاب الشرائط اللاصقة”
” في يوم غير بعيد قابلني رجل مسن، لا تقوى قدماه على حمله، و لا يقوى أيضا على حمل رأسه المثقل بالهموم”
“التقيت بكثير من النساء، اللائي ابتعت منهن ذكرياتهن”
ختامًا: أرجو التّوفيق للكاتب والمزيدَ من الألقِ والإبداعِ.
ميَّادة مهنَّا سليمان