خان يونس: مأساة النزوح تتواصل على وقع سؤال «وين نروح؟»

شبكة الشرق الأوسط نيوز : للمرة الثالثة خلال شهرين، يطلب جيش الاحتلال من سكان مناطق خان يونس الشرقية الإخلاء من أجل عمليات عسكرية. وبعد أوامر الإخلاء الإسرائيلية والتهديدات التي وصلت إلى هواتف السكان، مساء الإثنين، نشرت القوات الإسرائيلية خريطة للأهالي الذين يتوجب عليهم إخلاء مناطقهم على وجه السرعة من أجل تنفيذ عملياتهم العسكرية فيها، وشملت 14 إخلاء من قرى وبلدات وأحياء كبيرة، و17 إخلاء من مناطق تصنف بأنها تجمعات سكنية واسعة، إلا أن معظم هؤلاء المهجرين لا يزالون دون مأوى بعد أنّ دُمرت منازلهم في العملية العسكرية الأولى مطلع شهر يناير/ كانون الثاني.
وقدّرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أن الأوامر الجديدة، تطاول نحو ربع مليون شخص.
وقالت في منشور على منصة “إكس”، إنه بعد أسابيع فقط من إجبار الناس على العودة إلى خان يونس المدمرة (جنوب القطاع)، أصدرت سلطات الاحتلال أوامر إخلاء جديدة للمنطقة.
ويواصل الأهالي النزوح من بقايا المنازل القريبة من الحدود الشرقية لقطاع غزة مع الأراضي المحتلة، ومن عبسان وبني سهيلا وخزاعة، وبالقرب من شارع صلاح الدين، الذي يفصل مدينة خان يونس الشرقية عن وسط خان يونس (البلد) والمخيم، لكنهم جميعاً كانوا يرددون عبارة لم تكُن جديدة: “وين نروح؟ وين نروح”، في ظل اكتظاظ المناطق التي تضم النازحين وعدم استقبال مدارس “الأونروا” والحكومية نازحين جددا في ظل امتلائها منذ بدء العملية العسكرية على رفح.
في ظهيرة يوم الإثنين وصلت أسرة مدحت النجار (64 عاماً)، والتي كانت تقيم في بلدة خزاعة في المنطقة الشرقية دون أن تجد مساحة متاحة للاستقرار، علماً أن أفرادها كانوا من أوائل النازحين بعد التدمير الجزئي لمنزلهم.
وكان قد اختار العودة إلى حطام منزله وفضل البقاء فيه والعيش قرب الركام للابتعاد عن الخيام ومدارس النزوح.
سئم النجار التنقل من ذل إلى آخر، على حد تعبيره. لكن التحذير الأخير دفعه مُجبراً وعائلته إلى النزوح عله يحافظ على من تبقى من عائلته وأحفاده، بعد أن فقد الكثيرين منهم خلال أشهر الحرب.
يقول لـ “القدس العربي”: “هذه المرة الثالثة التي يجبرنا الاحتلال على ترك منازلنا والنزوح غربًا. بكيتُ كثيرًا لحظة الإخلاء وكأنها المرة الأولى. أين نذهب؟ لماذا نستمر في هذا الذل؟ وعن أي مناطق إنسانية يتحدثون؟ هذه مناطق مثل السجون غير الإنسانية. الاحتلال يراقبنا من البحر والجو، ويحاصرنا ويمنع عنا الأمان والغذاء والدواء. المناطق الإنسانية كذبة لا يزال العالم يرددها على لسان المحتل، ونحن لا نرى سوى مناطق يُعاني فيها الكثير من الناس، تتعرض للقصف كغيرها وحياة الذل، وهي أسوأ من السجون”.
يضيف: “على الأقل السجون مسقوفة وفيها بلاط وفرش ومراحيض وهناك من يحضر الطعام. هنا لا يوجد شيء وكل شيء صعب. نستحم بصعوبة، كما أن الطعام غير متوفر. الحرارة شديدة والرطوبة تكاد تقتلنا. عن أي منطقة إنسانية يتحدثون؟ بحثت طويلاً عن مكان أستطيع الإقامة فيه مع عائلتي. وأخيراً، صممت على نصب خيمة من الخشب والنايلون الذي جمعناه في منطقة وسط خان يونس، خارج المناطق المطلوب اخلاؤها. حتى لا نموت”.
واضطرّ المهجرون من خان يونس إلى النزوح سيراً على أقدامهم في ظل الأجواء الحارة ونقص المياه ومحدودية عربات النقل وصعوبة التنقّل. كان المهجرون كعادتهم وسكان المنطقة الشرقية موجودين في المنطقة وينتظرون قدوم أي عربات، لكنهم أحبطوا، فلم تصل هناك عربيات نقل عام بسبب شح المحروقات وخطورة المنطقة، فاضطروا للسير في مجموعات عائلية ومن الجيران. وكانوا يستريحون في الطريق فجميعهم معهم أطفال ونساء ومرضى وكبار في السن.
أسيل قديح، قصف منزلها واستشهد زوجها في استهداف للمنطقة الشرقية حيث تقيم. نزحت وعائلتها إلى أحد مراكز الإيواء بعد استشهاد زوجها، لكنها اختارت العودة إلى المنطقة الشرقية بسبب الصعوبات التي يواجهها النازحون خصيصاً بعد عملية رفح البرية، إذ كان من الصعب تأمين الطعام والمياه.
وتتابع أنه خلال التهجير الأخير اضطرت العائلة إلى السير على الأقدام للوصول إلى المنطقة الآمنة غرب دير البلح، وتحمد الله لأنها تمكنت من فعل ذلك وخصوصاً أنها تعاني من الربو ولا تستطيع تحمل مشقة المشي الطويل. وجدت عائلتها وعائلات جيرانها أرضًا واسعة كبيرة وضعوا في ها خيامهم.
وتقول لـ “القدس العربي”: “لم يبق أحد في المنطقة. كنا قد اخترنا العودة من أجل أطفالنا ولتفادي الذل الذي عشناه في المدارس والخيام. البقاء في أرضنا ومنزلنا أشرف لنا من البقاء مشتتين ومشرّدين. أخاف أن أعود إلى منزلي المتضرر جزئياً وأجده مدمراً بالكامل”.
وفي مستشفى ناصر الطبي، يجلس سعد الشاعر (37 سنة) مع المئات من أهلي أحياء خان يونس الشرقية، ويقول لـ”القدس العربي”: “أثناء نزوحنا للمرة الثالثة كانت طائرات الاستطلاع قريبة، وعادةً بهذه الأوضاع يكون هدفها القتل، حيث قتلت الكثيرين من الجيران، وعندما تنظر إلى السماء في كل عملية عسكرية للجيش الاسرائيلي تشعر أنّ هناك حالة تنافس بين الطائرات الحربية والطيران المُسيّر وطائرات الاستطلاع في كونهم أدوات للقتل، وقد نفذت مجازر كثيرة مؤخرًا في مراكز إيواء النازحين في مناطق خان يونس الشرقية”.
يضيف الشاعر: “بعد أنْ دُمرت أحياؤنا في العمليات العسكرية السابقة، أصبحنا نعيش في جوع وعطش دائمين، نخرج في الصباح لنحضر ما يتوفر من طعام، ونتبادل المياه المتوفرة، لكن الأوضاع تكون خطيرة للغاية في أوقات المساء، وفي بعض الأوقات تقوم الطائرات المُسيّرة بقتل كل من في الشارع. عشت طوال حياتي في خان يونس الشرقية، ولي فيها ذكريات كثيرة ولا أعرف مكانا غيرها. الموت القائم في خان يونس منذ بداية الحرب لم يتوقف رغم انسحاب الجيش منها، ففي كل مرة ينسحب ويعود مع عودتنا ويطالبنا بالنزوح منها إلى الشوارع وإلى اللامأوى، ونحن نريد أن نعيش حتى نصل إلى حلم التحرير، وأن نعود إلى أراضينا”.
ويؤكد وجود عدد من النازحين في الطرقات والشوارع تحت سقف الشمس الحارقة والليالي الباردة، وأنهم من بين العائلات التي فشلت كل المنظمات الإنسانية في تأمين أماكن نزوح لهم، وهؤلاء يزداد خوفهم يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد تكرار المجازر بحق المدنيين أثناء وخلال النزوح والمطالبات بالنزوح.
وتؤكد شهادات من شرق مدينة خان يونس أن جيش الاحتلال يستهدف جميع المدنيين المتبقين في المدينة ضمن مساعٍ مستمرة لشل الحركة فيها، ودفعهم إلى النزوح.
ويقول علي النجار (40 سنة)، وهو أحد الواصلين مؤخراً إلى مستشفى ناصر الطبي غرب مدينة خان يونس، إن الجميع معرضون للقتل، وفي كثير من الأوقات تقوم طائرات الاستطلاع الإسرائيلية بإطلاق النار باتجاه التجمعات السكنية وتجاه النازحين، كما تفعل الآليات العسكرية من تصويب مدافعها ورشاشاتها تجاه النازحين. كما تستهدف طواقم الدفاع المدني التي تحاول إسعاف الناس أو نقل الجثامين الملقاة في الشوارع، والعديد من العائلات قامت بترك جثث أبنائها وآخرون قاموا بدفنهم سريعًا داخل المنازل قبل نزوحهم.
ويؤكد النجار لـ “القدس العربي” أن جميع شهداء عائلته خلال العملية العسكرية كانوا من المدنيين، وأن الاحتلال يواصل سياسة إحراق المنازل بمن فيها عبر إلقاء القنابل الحارقة، كذلك دمر القصف عشرات المنازل في المنطقة، ومنازل أخرى انهارت بسبب شدة القوة التدميرية للقصف، خصوصا تلك المنازل المبنيّة من ألواح الاسبستوس أو من الزينكو.
ويقول: “كانت منطقة شرق خان يونس مزدحمة قبل الحرب وخلال الحرب وحتى بعد كل عملية برية، والآن وفجأة أصبحت كأنها مدينة أشباح، خان يونس تغيرت بالكامل، فالشوارع الرئيسية مدمرة، والأحياء السكنية مدمرة والبنية التحتية أيضًا”.
ويضيف: “في الأيام الأخيرة التي سبقت نزوحي، كنت قد استصلحت منزلي كما فعل العديد من الجيران، وعدنا للسكن فيه بعد انسحاب الجيش من المنطقة، وكنا قد بدأنا بتوفير سُبل ووسائل للحياة، الآن سنعود وقد دُمر المكان مرة اًخرى، وليست لنا أماكن نقصدها. في النزوح الأول كان هناك متسع لجميع النازحين في مراكز الإيواء والخيام، اليوم وبعد عملية رفح العسكرية، باتت فرص أن تجد مكانًا تأوي إليه ضئيلة جدًا، والخدمات معدومة. الناس تفترش الشوارع العامة ومستشفى ناصر وهذه الأماكن، والتي هي أيضًا غير آمنة”.

المصدر : القدس العربي

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.