رحلة مع عبد المنعم الرفاعي في ديوان المسافر
سامر أبو شندي …..
في العام 1988 وأنا على مقاعد الدراسة الابتدائية كان لقائي الأول بالأسرة الرفاعية فقد كنت أرتدي زي الكشافة وأقف في شرف استقبال جلالة الملك الحسين بن طلال ودولة زيد الرفاعي أثناء افتتاح جلالة الراحل لحدائق الملك عبدالله المؤسس في منطقة الشميساني في العاصمة الأردنية عمان .
أما اللقاء الثاني فكان في جبل اللويبدة مطلع التسعينات حيث كنت أرتاد جبل اللويبدة يافعا ساعيا وراء الثقافة تارةً في رابطة الكتاب وتارةً في رابطة الفنانين (نقابة الفنانين حالياً) وكان بجوار رابطة الفنانين في ذلك الوقت رابطة الاسرة الرفاعية التي تحتل مبناً قديماً في احجاره يشبه حجارة مباني القدس في عراقتها .
أما اللقاء الثالث فكان في العام 1997 عندما دخلت الجامعة الأردنية حيث تلقيت أولى محاضراتي في مدرج سمير الرفاعي وكان رقم جلوسي هو الرقم واحد ، لذلك لا يمكن لي أن أنس ذلك المقعد وذلك المدرج .
أما اللقاء الرابع فكان في العام 2013 عندما كنت مرشحا في القائمة الوطنية في الانتخابات البرلمانية وكان مركز إقتراعي بصفتي ناخباً ومرشحاً في مدرسة سمير الرفاعي التي تقع على سفح جبل اللويبدة العتيد .
وكنت قبل تلك المحطات المضيئة وبعدها دائم الاستماع الى إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية البرنامج العام حيث على موجات تلك المحطة يتبلور وعيي وتفتحت ثقافتي فكانت تلك الإذاعة الأم ولا تزال مصدراً هاماً للثقافة الملتزمة بقضايا الوطن والأمة فكم أحب أن استرق السمع لهذه الإذاعة التي رافقت الطفولة والشباب وشمس الغروب في زحام العمل والإنشغالات وفي أحد البرامج التي يتناول فيها زميلي في إتحاد الكتاب الأردني الدكتور بكر خازر المجالي تاريخ القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي ) تقدم الإذاعة أغنية بصوت الراحل إسماعيل خضر بعنوان تحية الجيش يصدح فيها المطرب إسماعيل خضر بالبيت القائل :
أيها الجيش من كتائب حطينا وقد عانق القديم الجديدا ….؟ .
مع تكرار إستماعي لهذا البرنامج وسماع تلك الاغنية وهذه الأبيات في نفس الوقت عصراً لمعت في ذهني فكرة مفادها لماذا لا أبادر انا بالزيارة ، وأن أزور الأسرة الرفاعية في باب كبير أسمه الشاعر عبد المنعم الرفاعي ومن أفضل من ديوانه (المسافر ) جليساً لي في هذه الزيارة ؟ وبدأت الإبحار في هذا الديوان فقد قالت العرب قديما أن الشعر ديوان العرب وكذلك فقد كان هذا الديوان يروي سيرة هذا الشاعر الذي كان بحجم أمة فهو حوراني الأصل صوري المولد صفدي النشأة عماني الهوا والعيش ثم الوفاة .
وبدأت الإبحار مع ديوان المسافر وتوقفت أمام محطة هامة في سفري الشعري أمام قصيدة رسل الوحدة التي ألقاها يوم 7 حزيران 1939 عندما وصل وفد سوري برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر لتقديم التعازي للمغفور له الملك عبدالله المؤسس بوفاة المغفور له الملك غازي بن فيصل ألقى تلك القصيدة في ساحة المدرج الروماني حيث أقيم مهرجان قومي ضم الآلاف وحضره الملك عبدالله المؤسس وخطب فيه السادة الدكتور شهبندر وسعيد المفتي والشيخ فؤاد الخطيب ومصطفى وهبي التل وعمر أبو ريشة وعبد المنعم الرفاعي حيث يقول في تلك القصيدة :
وقف الصبح باسم الأضواءِ فرحا من تعانق الأبناءِ
وقديما هبت من الشام روح ملات بالشذى مدى الأجواءِ
فأسال الجوّ هل به غير عبقٍ من خزامى حناتها الزهراءِ
تجدر الإشارة بان الشاعر أصيب برصاص الفرنسيين في سوريا عام 1945م، حيث كان مكلفاً بمهمة وطنية الأمر الذي أثر في نفسه.
وعاد وبعد زوال الاستعمار الفرنسي وجلائه عن سوريا بإلقاء قصيدة في الحفل التكريمي الذي أقامه له النادي العربي بدمشق خلال زيارة الشاعر لسوريا العام 1949 ليقول فيها :
هفا اليك وناجى الظّل والبانا واسترجع العهد سماراً وخلاناً
ونازعته من الأردن عاطفة كادت تطير به شوقاً وتحناناً
وفي ديوان المسافر يختلط الخاص بالعام فنجده في العام 1946 ينظم قصدة في رثاء والده الذي وافته المنية في عمان يوم 29/12/1946 فيقول فيها :
يا ابي كفكت من دمعي زماناً آن أن اجريه في يومك آنا
الصباح الجونُ لما اشرقت شمسه ألقت على الكون دخاناً
جئتك الصبح كما عودتني الثم الكف واشتاق الحناناً
لم اجد الا جلالا ساجياً غض من طرفي واعياني بياناً
وكان لمدينة عمان حيث عاش وتولى ارفع المناصب قصيدة قال فيها :
عمان ، يا حلم فجر لاح واحتجبا عفواً اذا محت الأيام ما كتبا
وملت نحوك بالأنّات أكتمها أبكي المنابر والأعلام والقببا
ابكي لوحدي فحتى دمعتي فقدت من طول غربتها خلاً ومصطحباً
أقّبل الركن كم مسته من شفةٍ ملثومةٍ بلغت اشواقها كذباً
في هيكلٍ شاده التاريخ من شرفٍ وبارك الله فيه الدين والقربا
ويرثي والدته التي وافتها المنية بتاريخ 21/5/1964 بعمان أثناء توليه منصب المندوب الدائم للأردن في الأمم المتحدة فيقول في قصيدة ( رحيل الأم ) .
ضاق المدى ……فمشارف الأبد بيني وبينك موعد لغدِ
كنا وافقك كلّ متجهي والنأي اقصر مقلتي ويدي
لم يبق من حجب تباعدنا فالروح فكت ربقة الجسد
وهناك في الخُلد أفسحي نزلا وترقبيني عنده تجدي
انا منك لما قبل بي رمقٌ وعلى مغيبك مغربي الأبدي
وكان لوفاة الزعيم جمال عبد الناصر نصيب من شعره بقصيدة ألقاها في القاهرة في حفل تأبين الزعيم الخالد في أكتوبر 1970 جاء فيها :
كلا …. فما صدق الناعي ولا الخبرُ وتلك اعلامك الغرّاء تنتظر
يا باعث الروح في الموتى الطرادُدنا والخيل تصهل والميدانُ يستعرُ
والقدسُ من لوعة اللقيا لناصرها تهفو بارجائها الايات والسّورُ
نشر شعره في عدد كبير من الصحف الأردنية منها الجزيرة ، الأردن ، الدفاع ، الجهاد ، الدستور ، الراي كما نشر شعره في مجلات من بينها مجلة الرابطة الثقافية الأردنية ،أفكار رسالة الأردن ونشر أيضا في صحف ومجلات عربية فيها مجلة الهلال المصرية وصحيفة الاهرام المصرية ومجلة الجمهورية اللبنانية .
وكان لفلسطين نصيب من هذا الديوان عبر مجموعة من القصائد وهي فلسطين ، نضال ، اللاجي ، عام ، اغنية فلسطين ، نشيد الفدائي فيقول في قصيدة النضال :
اشتاق حدّك ماضيا ومخضباً وأريد ان تهيب الحياة وتكتبا
خذلتك ادران الهزيمة فارمها وانثر جناحك طاوياً ومغيباً
ينهار تحتك كل كهفٍ حالكٍ ويردّ رجعك نازحا ومعذّبا
في عِبرة التاريخ كلّ نصراً رزيّةً ترد بالعزمات نصرا اغلبا
عشرون عاما والهوان بحوضنا ينساب في دعةٍ ويعذُب مشربا
تستافه زمر الخنوع فتنتشي سَكرى تغارُ على الطِّلى ان ينضبا
وطني ، وكم غنيت باسمك ساجعاً وحملت حبك في الطفولة والصِّبا
صدر للشاعر العديد من الإصدارات منها :
الإتحاد العربي : ثورة العرب ، مقالات ، 1958 .
المسافر ، مجموعة شعرية مطابع دار الشعب ومكتبتها ، عمان ، 1977 .
وصدر في طبعة أخرى عام 1979 عن دار المتحدة للنشر ، بيروت بعد ان أضاف اليه الشاعر سبع قصائد جديدة وبه قام كاتب هذه السطور بالسفر والابحار مع اهداء في صدر هذا الديوان الى ابنه عمر .
الاعمال الكاملة ، دائرة الثقافة والفنون عمان ، 1987 .
السيرة الذاتية ” الأمواج صفحات من رحلة الحياة”
نشيد العلم .
والمتذوق لشعره يلحظ مدى الثقافة الواسعة للشاعر وقراءاته المتشعبة شعراً ونثراً وتأثر كثيراً بالشاعر أبو الطيب المتنبي وأمير الشعراء احمد شوقي والشاعر بشارة الخوري ، وأخذ من كل شاعر ميزة اكتنزها في شعره ويوجد حضور للأسطورة في قصائده .
أما الصور الشعرية عند عبدالمنعم الرفاعي فقد استخدمها في شعره دون تكلف وبذكاء وبساطة وقرب من الخيال وتميزت الصورة الشعرية لديه بالتورية والكناية ويُرجع الدارسون السبب في ذلك الى كونه دبلوماسيا يعبر عن مشاعره بحصافةٍ وغموضٍ شفيف بعيدٍ عن المباشرة .
وفي لقاء لشاعرنا الكبير مع صحيفة القبس الكويتية نشر بتاريخ 6 مارس 1985 يقول الشاعر (( انا مقل في الشعر ، يأتي الشعر عندما تنشأ في نفسي حالة تسوقني الى نظمه ، انا لا اتعمد ان اجد دوافع للشعر او التعرض للأحداث الشعرية إنما اتجاوب مع عاطفتي الشعرية عندما تقودني الى نظم الشعر )) .
وحول علاقة الشعر بالسياسية وهو السياسي المحنك الذي شغل ارفع المناصب في الأردن سفيرا ووزيرا للخارجية ورئيسا للوزراء يجيب عبد المنعم الرفاعي ((إنني لا أجد تعارضاً أو تبايناً أو إفتراقاً بين عامل الشعر في نفسي وعامل السياسية وأنا أعتبر أن السياسة هي التفاعل النفسي مع الوطن ، المجتمع ، الأحداث ، والشعر هو تعبير عن هذا التفاعل ، فكلامهما صادر عن منبع واحد ، لكن المخرج مختلف ، التعبير مختلف ……….)) .
وحول إقامته في القاهرة ومكانة العاصمة المصرية في وجدانه يقول :
(( أذكر في سنوات اقامتي في القاهرة كان تعاملي مع الشعر أكثر وأفضل كان لي مجلس يومي على شاطيء النيل وهناك تحيط به الأجواء الشعرية فأنظم .
أذكر أنني في سنة واحدة نظمت حوالي 30 قصيدة لكن في فترات أخرى وخلال عشر سنوات لم أنظم 15 قصيدة )
في السابع عشر من الشهر الجاري تمر الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاته حيث فاضت روحه الطاهرة الى ربه في السابع عشر من أكتوبر في العام 1985 لكن روحه ظلت حاضرة في وجداننا كلما عزف السلام الملكي الذي نظمه وكذلك مع نشيد العلم الذي لا يقل جمالا عن السلام الملكي .
وإبنه الدكتور عمر عبد المنعم الرفاعي فقد سار على خطى الوالد الشاعر وهو اليوم يعمل في السلك الدبلوماسي وشغل مناصب دبلوماسية عديدة منها سفير للأردن في مصر وإيطاليا وأمينا عاما لوزارة الخارجية ورئيساً للمعهد الدبلوماسي .
سامر أبو شندي كاتب من الأردن
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.