.. ولسوف “يحيى” السنوار طويلاً في ذاكرة التاريخ العربي وبؤرة الضمير الفلسطيني

بقلم : فهد الريماوي  ….

 

يليق بكل كاتب عربي حر ان يقرأ سورتي الفاتحة والفتح، وان يضيف العطر الى الحبر، قبل ان يخطّ سطراً عن سيرة ومسيرة القائد الشهيد يحيى السنوار، الذي ابتدأ حياته شبلاً وأنهاها بطلاً.. ابتدأها فرداً وغادرها قائداً.. ابتدأها لاجئاً مُشرداً وفارقها خالداً مُخّلَداً.. ابتدأها اسماً مبنياً للمجهول واختتمها عَلَماً مرموقاً من أعلام الكفاح العالمي، وأيقونة ثورية أممية، جنباً الى جنب مع الثائر الأرجنتيني المقدام تشي جيفارا، الذي تحدى اليانكي الأمريكي في عز سطوته وجبروته.

بسعادة غامرة فتح التاريخ أبوابه، يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، ليستقبل القادة القساميين، يحيى السنوار، ومحمد الضيف، ومروان عيسى، الذين أطلقوا ملحمة “طوفان الأقصى”، فأصابوا العدو الصهيوني في مقتل، وقهروا جيشه الذي ادعى أنه لا يُقهر، وأغرقوه في لُجة من الهلع والجزع والانصدام وفوضى ردود الافعال، وأربكوا الغرب الاستعماري المتصهين كما لو ان حرباً عالمية ثالثة قد اندلعت، وحمي وطيسها، واحترق الكيان الاسرائيلي في أتونها.

مرحى ليحيى السنوار، فقد عاش مناضلاً باسلاً كما أراد، واستشهد في معترك القتال كما تمنى، وجثم في سجون العدو كما الأسود، وأدى الواجب الوطني على أكمل وجه، وضرب المثل في القيادة الميدانية على رأس الصفوف الاولى، وهندس حياته بما يتوافق مع أحلامه وقناعاته وتطلعاته، بل اعتلى صهوة الحياة فارساً ينتمي الى زمن الفتوحات الاسلامية، وترك لدمه ان يرسم خارطة فلسطين الجديدة المُكللة بالانتصار والمتوجة برايات الحرية والاستقلال.

تحت شعار “هذا جهاد.. نصر او استشهاد”، خاض السنوار ورفاقه منازلة “الطوفان”، وقاتلوا بعزيمة استثنائية تتخطى المعقول الى اللامعقول، وتتعدى واقع الحال الى آفاق الخيال، وتثبت انهم استطاعوا حذف حرف العطف “او” وجمعوا بالتالي بين هاتين الحسنيين معاً، حيث حققوا النصر على زخارف الحياة الدنيا بـ الاستشهاد في حومة الوغى، وساحات التضحية والفداء والجود بالنفس في سبيل الدين والوطن.. وتلك – وأيم الله – خصيصة ربانية وارادة فولاذية وقدرة إعجازية لا يقوى عليها الا الجبابرة والعمالقة والمتميزون من أنبل بني البشر..

في مضمون ومكنون روايته “الشوك والقرنفل” التي كتبها في سجنه، يكشف السنوار عن بعض افكاره ومعتقداته، ويعتبر تلميحاً تارة وتصريحاً اخرى، ان الحياة جهاد موصول لانه فريضة دينية وعقيدة وطنية، وان الموت ليس هزيمة ولا هو خاتمة الحياة ومنتهاها، وان الخلاص الفردي الفلسطيني ليس الحل، بل الحل يكمن في الخلاص الجماعي، بوصفه ضرورة استراتيجية لشعب مشرد ووطن محتل من لدن عدو خيبري غاصب لا يرى الا نفسه، ولا يفقه الا لغة البطش والاجرام وانكار حقوق الآخرين.

نعم، لقد مات جسد المجاهد السنوار، ولكنه لم يصحب روحه معه الى دوائر الموت، بل تركها وديعة غالية لدى أشاوس “كتائب القسام”.. تركها حرة طليقة ترفرف في آفاق القدس الشريف، وتنادي للأخذ بثأره مُضاعفاً من قتلته الاوغاد، وتُلهم الأجيال الفلسطينية كي تقتدي بجهاده وتكمل مشواره، ومن ثم تُحرّض الشباب العربي على أنظمته الخائنة والخائبة التي خذلت أهل قطاع غزة، بأمل ان تنفجر الأوضاع الشعبية العربية في المدى القريب، شأن ما أعقب نكبة عام ١٩٤٨ من اغتيالات وانقلابات وثورات أطاحت آنذاك رؤوساً وعروشاً كثيرة عفنة.

طوبى للشهيد “أبي ابراهيم” السنوار الذي فضح، من خلال طوفان الأقصى، حقيقة دهاقنة الغرب ورؤسائه واولياء أموره، واثبت ان كل مسيحي منهم – برئاسة الشيطان الأمريكي – هو يهودي الروحية، وتوراتي المرجعية، وعبراني الدخيلة الجوانية، ولو حككت جلد اي واحد منهم لوجدت تحته يهودياً بلحية قذرة، ونجمة سداسية، وقلنسوة كيباه مُرقطة.. وبقدر التحام هؤلاء المسيحيين الخبثاء باليهود، والتزامهم بثقافتهم المريضة وأساطيرهم المُلفَقة، بقدر ما يُكنّون كراهية ممزوجة بالحقد والاحتقار للأجناس العربية والاسلامية منذ قديم الزمان، بل ربما منذ تلك المفاضلة ما بين اسحاق ابن ابراهيم من زوجته المدللة “سارة”، واسماعيل ابنه من ضرتها الجارية “هاجر”.

لقد تملّكتني الدهشة واعتراني الذهول، وأنا أرى وأسمع كيف تحول استشهاد السنوار الى زفة اعلامية غربية صليبية شديدة الوقاحة، وكيف استقبل حكام هذا الغرب نبأ الاستشهاد بفرحة صبيانية غامرة لا تليق بالرزانة المُفترضة لكبار الساسة والمسؤولين، وكيف تبادل قادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا وحتى كندا التهاني والمباركات بالخلاص من هذا الثائر العربي المسلم.. تماماً كما لو انه كان قد بصق في وجوههم، وزحف بجيوش جرارة لاحتلال أوطانهم، وأباد الملايين من رجالهم واغتصب “العفيفات جداً” من نسائهم !!!
لن تشهد البشرية عدلاً ولا حقاً ولا انصافاً، ما دامت امبراطورية الشر والشرك الأمريكية تهيمن على الكرة الأرضية، ولن يُزهق الباطل ويُمحق الظلم الا بعد ان تتداعى هذة الدولة الملعونة، وعسى ان يكون ذلك قريباً باذن الله، فالتباشير الأولية تبيّن انها سائرة حثيثاً نحو التدهور التدريجي، الذي لن يطول كثيراً قبل بلوع درجة الانهيار.. ويومذاك سوف تسقط القطبية الاحادية، وتبتسم الدنيا قاطبة، ويطيب العيش العالمي، ويفرح المؤمنون بالحرية والعدالة والمساواة بين أبناء القارات والديانات والمُعتقدات كافة.

وبعد،، السلام عليك يا “أبا ابراهيم” العظيم، والرحمة لروحك الطاهرة التي ما زالت حاضرة، والمجد لك ايها المجاهد الخالد، فقد كفّيت ووفّيت.. صنعت التاريخ وسكنت التاريخ، بعدما وضعت كل الكيان الصهيوني في حالة غيبوبة تامة وشلل مطلق، وفي مرحلة انعدام الوزن وتشتت الذهن وفقدان اليقين، ولم تستيقظ من غيبوبتها وتستعيد وعيها وتوازنها، الا بعد ان هرع الى زيارتها وطمأنتها بايدن وباقي زعماء الغرب المتهود، وتتقاطر لنجدتها سلاسل البوارج والصواريخ والاساطيل وقنابل الأعماق، ومراكز الاستخبارات وأجهزة التجسس والتنصت والمراقبة البشرية والالكترونية والاصطناعية.

وفي الختام،، لن أقول لك – أخي أبا ابراهيم – وداعاً ونم قرير العين، لانني أعرف ان أمثالك من المؤمنين بدين الاسلام لا ينامون على الضيم، ولا يبرحون المرابطة في ساحة الجهاد المقدس حتى بعد الموت، ولا يطالهم الغياب والاحتجاب والبلاء والفناء ما داموا “عند ربهم يُرزقون”.. ليس وداعاً بل الى اللقاء.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.