ليبيا من جديد
د. ماجد الخواجا …..
أتيحت لي الفرصة أن أختتم عام 2024 في مدينة وجامعة بنغازي في ليبيا للمشاركة في مؤتمر يبحث عن دور الإعلام في تحقيق المصالحة الوطنية، والذي تقيمة كلية الإعلام بهدف الوصول إلى جوامع وقواسم مشتركة من الأولويات الوطنية الليبية الهادفة لنشر السلم المجتمعي والوحدة الوطنية للتراب والشعب الليبي.
يبدو أن فكرة الحوارات الوطنية والمصالحة والعدالة الإنتقالية أصبحت ثقافة شائعة في منطقتنا العربية التي عانت وتعاني من شتى صنوف الإنقسام والتفتيت والتشظّي ما بين مكونات وفئات المجتمعات العربية التي عبر تاريخها تعايشت واقتسمت الوطن كمظلة واحدة رغم اختلافاتها الفكرية والمذهبية والدينية والطائفية والقبلية.
هناك حاجة حقيقية للمصالحات الوطنية في لبنان واليمن والسودان والعراق وليبيا والصومال، وهناك دول فرضت الصوت والمنطق الواحد على مكونات المجتمع لكنها لم تصل إلى مرحلة السلم والانسجام المجتمعي المنشود، فما زال تحت الرماد أوار نار تنتظر عودة اشتعالها.
لقد تم استخدام الإعلام وادواته وتسخيرها في سبيل زيادة منسوب الكراهية وانتشار البغضاء وتفشّي الفتنة، وهذا لا يعني أن المشكلة في الإعلام وادواته، فهو مجرد وسيلة قابلة لأية استخدامات، لكن المشكلة في المستخدم للإعلام الذي يريد تحقيق غايات خبيثة وسلبية بما يؤدي إلى شروخ في الجدار الوطني وزيادة احتمالات انهياره.
إن المصالحة الوطنية لا تأتي بقرار فوقي أو أحادي، وإنما تنبع عبر الخاصية الأسموزية لبناء الثقة بالتدريج لدى جميع الأطراف، وأن تبدأ بالمصافحة والمصارحة وصولاً للجلوس على طاولة الحوار ووضع مصفوفة وطنية تتضمن ما يمكن التوافق عليه باعتباره أولوية وطنية، إضافة لما تدعى بالعدالة الانتقالية التي تعيد الحقوق وتجبر الضرر وتحاسب المجرم دون محاباة ودون استثناءات.
يبدو في الواقع العربي أن الجميع يريد المصالحة لكن الجميع يحاربونها، ويبدو أن الجميع ينكرون الحروب الأهلية لكنهم جميعاً يخوضونها، أي أن الكل متواطئ سواء برغبته أم رغماً عنه، فلا يكاد ينجو طرف من عدم الخوض في الفتن والحروب والاقتسام للموارد ونهب الممتلكات وتلطخ الأيدي بالدماء.
إن ليبيا وبعد إسقاط نظام القذافي دخلت في نفق الفتنة والحرب الأهلية، وانتشر فيها تعبير ” دول المدن” حيث ظهرت المدن كدول مستقلة مالياً وإدارياً، فشاهدنا دولة مصراتة ودولة طرابلس ودولة بنغازي وبني وليد وزليطن وهكذا. ومنذ عام 2015 ما زالت المحاولات لإعادة الوحدة الليبية التي اقتسمها ملوك الحرب، فكان مجلس النواب من نصيب الشرق الليبي، فيما بقي مجلس الدولة والبنك المركزي في طرابلس. وجاءت اللقاءات في مدينة الصخيرات المغربية، وتوالت بعدها اللقاءات غير المجدية التي لم يخرج عنها رغبة عامة موحدة، وهذا متوقع بسبب تكريس المصالح الفئوية على الأرض، وهي مصالح ترسخت عبر الامتداد الزمني وأصبح من الصعوبة بمكان التخلّي عنها. حتى أنه يقال أن ليبيا بحاجة لثورة ناضجة أعمق وأشمل من ثورة 2011، كي تستعيد ليبيا وحدتها.
في بنغازي تشعر بوجود حكومة ونظام أمني وإداري جيد، وهذا يعود إلى كون بنغازي منذ عام 2014 ودحر داعش عام 2017 بدأت إقامة جهاز إداري وحكومي وقطاع عام وجيش منظم، حتى أنك تلمس ذلك في مستوى العمران والبنية التحتية المتفوقة فيها على مختلف المدن الليبية الأخرى.
تعاني ليبيا من قضايا عديدة في مقددمتها الهجرات غير الشرعية التي اتخذت من ليبيا معبراً إلى الفردوس الأوروبي، لكنها أصبحت مقراً للمهاجرين أيضاً.
في بنغازي تشاهد كثيراً من العمالة العربية المصرية والسورية واللبنانية والأردنية والفلسطينية والسودانية واليمنية. وهي حالة مشاهدة في بغداد وعمان والجزائر والقاهرة. لقد توحد العرب في شوارع الغربة عن أوطانهم.
حديث دافئ مفعم بالأمل، في كل مرة أزور فيها بنغازي أجد فيها شيئاً جديداً من العمران والتطور والحداثة. ولنا عودة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.