حزب الله كيف سيتصرف بعد رفض إسرائيل الإنسحاب من جنوب لبنان

المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات ….

 

إسرائيل منذ إنسحابها من جنوب لبنان عام 2000 حافظت على موقف متردد تجاه الإنسحاب الكامل من المناطق الحدودية، بخاصة تلك ألتي ما زالت موضع نزاع مثل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، مما يعكس أعتبارات عسكرية وأمنية وسياسية متعددة يمكن تحليلها من زوايا عدة من وجهة نظر السياسة الإسرائيلية كالأعتبارات الأمنية والعسكرية والردع العسكري والتحصين الدفاعي، وترجح تل أبيب دوماً بأن يمنح الإنسحاب الكامل من الجنوب اللبناني حزب الله مساحة أكبر للتموضع العسكري، مما يجعل الجبهة الشمالية أكثر خطورة، ومن هنا تعتمد على وجودها العسكري المستمر في بعض المناطق الحدودية لضمان العمق الإستراتيجي الذي يمنح الجيش الإسرائيلي قدرة أكبر على مراقبة التحركات داخل لبنان وأستباق أي تهديد محتمل، وأيضاً تعزيز قدراته الردعية، إذ إن إستمرار التهديد بالعمليات العسكرية في الجنوب اللبناني يبقي حزب الله في حال إستنزاف دفاعي ويجعل أي تصعيد مكلفاً له، وتتذرع بمبدأ حماية المستوطنات الشمالية والبلدات الإسرائيلية القريبة من الحدود مثل كريات شمونة والمستوطنات الأخرى في الجليل كي لا تبقى عرضة لأي عمليات تسلل أو قصف صاروخي، ومنذ بدء الحرب الإجرامية على غزة صعدت إسرائيل وحزب الله المواجهات على الجبهة الشمالية ولاحقاً دخلت القوات الإسرائيلية إلى الجنوب اللبناني واحتلت أراضي شاسعة، وهذا الإحتلال المستجد يتحمل مسؤوليته الحزب بطبيعة الحال، فلولا جبهات الإسناد التي أطلقها لما كانت القوات الإسرائيلية ستدخل وتتمركز في نقاط إستراتيجية على الحدود مع لبنان، مما يدفع إلى التساؤل حول طبيعة الإنسحاب الإسرائيلي من المناطق الحدودية اللبنانية، أما أن الإنسحاب جاء غير كامل فإنه يفتح الباب أمام تحديات جديدة لـ حزب الله سواء من ناحية مشروعية مقاومته أو من ناحية أحتكار العمل العسكري ضد إسرائيل، كمراقب ومتابع للشأن اللبناني عن قرب ليست خيارات الحزب سهلة مع بقاء الجيش الإسرائيلي في الجنوب وحرية حركته، وهو بند تمسكت به تل أبيب وأصر عليه رئيس الوزراء النتن ياهو يوم أعلن عن موافقة حكومته على إتفاق وقف إطلاق النار، وأستمرار الغارات والأغتيالات ألتى يقوم بها على كامل الأراضي اللبنانية وحيث توجد مخازن أو طرق إمداد تابعة للحزب، وحجته خنق الحزب ومنعه من إعادة بناء قدراته، ومن هنا يجد الحزب ربما مبرراً لأستمرار المواجهة، أو إستهداف المواقع الباقية بالطائرات المسيّرة والصواريخ مع الحفاظ على قواعد الأشتباك القائمة، وهذا الخيار سيبقي الجبهة الشمالية نشطة، لكنه قد يكون مكلفاً للحزب سياسياً، إذ من الممكن أن يتعرض لضغوط محلية وإقليميه ودولية تطالبه بتخفيف التصعيد والتزام تطبيق القرار 1701، وانطلاقاً من هذه النقطة يحاول حزب الله ومن خلال حشده الشعبي المليوني الذي شهده يوم 23 من شهر فبراير 2025 تشييع الأمين العام حسن نصرالله ورئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين وبمشاركة رسميه وشعبية من أكثر من 70 دوله اللذين أغتالتهما إسرائيل، أن يجعل من المناسبة ما يشبه “الاستفتاء” على شعبيته في الداخل اللبناني ويبعث رسائل في كل الأتجاهات أنه لا يزال قوياً ويتمتع بنفوذ، بالتالي لن تطوى صفحته العسكرية بإنتهاء التشييع الذي أراد منه أن يكون تاريخياً، علماً أن الأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم قال إن “ليست هناك أية ذريعة للإحتفاظ بوجود عسكري في أي موقع في جنوب لبنان ويجب أن يكون موقف الدولة اللبنانية صلباً وحاسماً في إشارة إلى أن موضوع الضغط وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي في يد الدولة اللبنانية، ويتوقع أن يعزز الحزب من مسار التفاوض السياسي والدبلوماسي في الوقت الحالي ودعم ذلك المسار بطريقة غير مباشرة مع إسرائيل عبر الوسطاء من الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة، سعياً إلى إنسحاب كامل من دون تصعيد واسع، لكنه سيواجه حتماً تحدي الحفاظ على صورته كقوة مقاومة، بخاصة إذا بدا أن الإنسحاب تحقق بجهود دبلوماسية أكثر من أنه نتيجة عمل عسكري، وهنا قد يلجأ الحزب إلى تنشيط فصائل أخرى ذات طابع مقاوم لكنها غير مرتبطة به رسمياً مثل بعض الفصائل الفلسطينية أو سرايا المقاومة أو بعض الفصائل التابعة للأحزاب المنضوية ضمن محور ما يسمى الممانعة، كالحزب السوري القومي الإجتماعي والمجموعات الصغيرة في بيئة الجنوب، وإعادة تفعيل المقاومة الشعبية ألتى كانت خلال فترة ما قبل عام 2000 لتوجيه ضربات إلى إسرائيل من دون الدخول في نزاع مباشر، وإذا أعتبر بأن حزب الله لم يعُد الممثل الوحيد لـ المقاومة ضد إسرائيل، فمن الممكن أن تظهر مجموعات أخرى تسعى إلى إستغلال هذا الفراغ وربما تأتي هذه الفصائل من بيئات فلسطينية في المخيمات اللبنانية، بخاصة مع تزايد التنسيق بين الفصائل الفلسطينية في غزة وحزب الله، مع إحتمال أن تعود المجموعات ذات التوجه اليساري أو القومي ألتي ترى بأن المقاومة يجب ألا تبقى حكراً على حزب الله وحده، ومن الممكن جداً أن تظهر عناصر شيعية غير مرتبطة بالحزب لكنها قد تتأثر بالضغوط الداخلية وترغب في التعبير عن نهج مقاوم مستقل، وسيستغل حزب الله ذلك وسيشجع على ظهور مجموعات مقاومة محسوبة عليه ولكن بمرجعيات متنوعة مثل دعم خلايا فلسطينية أو تشكيل وحدات خاصة تحت أغطية مختلفة، مما سيكون مفيداً للحزب لتخفيف الضغط الدولي عنه، لكنه في الوقت نفسه قد يكون سلاحاً ذا حدين، إذ إنه من الممكن أن تفقد قيادة الحزب السيطرة على هذه الجماعات لاحقاً، وأن الإنسحاب الإسرائيلي غير المكتمل سيشكل معضلة لـ حزب الله لأنه سيجبره على الموازنة بين الإستمرار في المقاومة للحفاظ على شرعيته وتفادي ضغوط محلية وإقليميه ودولية لوقف التصعيد، كما أن هذا السيناريو قد يفتح الباب أمام ولادة فصائل جديدة، إما بدعم من الحزب أو كرد فعل على أي فراغ قد ينشأ، مما يعيد تشكيل مشهد المقاومة في لبنان بطريقة غير مسبوقة، ولا يمكن الحكم على مرحلة ما بعد الحرب كما مرحلة ما قبلها، فالنتائج ألتى أسفرت عنها منذ الإسناد إلى الحرب الكبرى، أدت إلى إختلال كبير في موازين القوى وحزب الله أول من يعرف أن هذا الأختلال لا يسمح لأي هوامش بالعودة لما يشبه مرحلة ما بعد حرب 2006، بالتالي وبناءً على هذه المعطيات بات من الصعب جداً أن يُعاد تسليح أو تنظيم أي حركة غير شرعية تقوم بعمليات، مما تستفيد منه إسرائيل للأسف لإبقاء ورقة إحتلالها المستحدث للمواقع في الجنوب اللبناني بغية الضغط في سبيل تطبيق كامل للأتفاق جنوب الليطاني وشماله، والمعطيات تقول بأن منطقة جنوب الليطاني بات الجيش اللبناني يحقق فيها تقدماً كبيراً في الإمساك بكل مفاصل الأرض وفي تفكيك البنية العسكرية لـ حزب الله، بإعتبار أنه لم يعُد هناك خيار آخر، بالتالي إستكمال هذه المهمة جنوب الليطاني سيؤكد عودة الجيش وجاهزيته لتسلم الخط الأزرق كاملاً وتحقيق هدف إزالة الإحتلال الأسرائيلي المستحدث، وأن منطقة شمال الليطاني تدخل في مرحلة ثانية ودينامية نزع كل سلاح غير شرعي بدأت في لبنان، حيث بات من الصعب جداً على حزب الله خلق أي أدوات لأي عمل أمني أو عسكري والكلمة الآن للدولة اللبنانية فقط، وحتى بعد إنسحابها عام 2000 واصلت إسرائيل تنفيذ عمليات عسكرية دورية داخل الجنوب اللبناني كجزء من إستراتيجية المنطقة العازلة غير الرسمية، مما ساعدها في الحد من قدرة حزب الله على إستخدام الجنوب كنقطة إنطلاق لهجمات مستقبلية ومنع إقامة بنية تحتية عسكرية متقدمة قرب الحدود، وأيضاً لذلك أبعاد سياسية وإقليمية، من بينها ملف مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فترفض إسرائيل الإعتراف بلبنانية هذه الأراضي، معتبرة أنها تابعة لسوريا، بالتالي تخضع لمفاوضات منفصلة حول الجولان، وهذا الموقف يمنحها ورقة ضغط سياسية في أي مفاوضات مستقبلية مع لبنان أو سوريا ويعطيها مبرراً لأستمرار الوجود العسكري في المناطق الحدودية بدعوى حماية الأمن القومي، ومن وجهة نظر إسرائيلية فإن الإنسحاب الكامل من دون شروط قد يفسر على أنه إنتصار لـ”حزب الله”، مما يعزز من شعبيته وقوته في الداخل اللبناني وربما يشجع جماعات أخرى على أتباع نهج مماثل، كما أن الإنسحاب قد يضعف موقع إسرائيل التفاوضي مستقبلاً في أي إتفاقات إقليمية، لكن إسرائيل ليست وحدها في هذا القرار، فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تدعم بصورة غير مباشرة هذا النهج لأسباب عدة، أولاً الحفاظ على توازن القوى في المنطقة ومنع إيران من تعزيز نفوذها عبر حزب الله وتجنب خلق فراغ أمني تستغله مجموعات أخرى مثل الجماعات الجهادية أو حتى الجيش السوري في حال تغيرت الأوضاع السياسية، ويمكن القول اليوم بأن حزب الله وبحسب ما يُستشف من تصريحات أمينه العام الشيخ نعيم قاسم والمسؤولين فيه لن يبادر في الوقت الراهن إلى فتح جبهة عسكرية جديدة لتحرير الأراضي المحتلة أي النقاط الخمس لأسباب عدة من بينها الإنصراف إلى أولوية متابعة ترميم وضعه الداخلي وهيكليته القيادية ومعالجة تداعيات الحرب على بيئته وجبهته الداخلية، لا سيما ملف إيواء النازحين وإعادة الإعمار، وهو في طور إعادة قراءة دقيقة وهادئة لكل المرحلة السابقة على المستويات كافة لمحاولة التكيف مع الوقائع الجديدة في لبنان والمنطقة والعالم والحد من الخسائر قدر الإمكان جراء التهديدات الكبرى ألتى تشكلها المشاريع الأميركية الترامبية ـــ الإسرائيلية القديمة والجديدة وألتى باتت تهدد كيانات دول عربية وإقليمية ودولية وليس فقط لبنان، من المؤكد بأن حزب الله سيعيد صياغة خطاب سياسي يتواءم ويتناغم مع طبيعة ومحددات ومقتضيات المرحلة وسيسعى إلى الأنفتاح والتعاون مع العهد الجديد والحكومة العتيدة في معالجة الأزمات الكثيرة ومواجهة التحديات الجديدة، لاسيما إستكمال الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب وتثبيت الحدود، كما أنه أيضا سيتخذ خطوات وإجراءات تقترب أكثر من منطق الدولة والوقوف خلف الجيش اللبناني والوسائل الدبلوماسية ألتي تحدث عنها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون لتحرير ما بقي من أراضي محتلة وعدم خوض حرب جديدة قد تؤدي إلى تداعيات أكبر، وأن ذلك لا يعني التفريط بورقة القوة ألتي يملكها وهي سلاح حزب الله الذي يبقى ضمانة أساس في وجه الخطر الإسرائيلي مع غياب الضمانات الدولية والأميركية تحديداً المنحازة دائماً إلى إسرائيل ومصالحها الأمنية والأسراتيجية في المنطقة، كأنه لا يمانع الحزب مناقشة سلاحه على طاولة حوار وطنية داخلية، كما قال رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري ضمن سياسة دفاعية لأن إسرائيل لا تزال تشكل تهديداً فعلياً للبنان وللأمن الإستراتيجي للمنطقة في ظل مشاريع ترمب بتهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر وسوريا والسعودية، ولذلك سيلتزم الحزب ما تقرره الدولة رئيساً للجمهورية وحكومة وينضوي تحت سقف خطاب القسم والبيان الوزاري، ولا يعني هذا تسليم حزب الله ولا أهالي القرى الجنوبية بالأحتلال، بل بالسعي من خلال الوسائل كافة إلى تحرير الأراضي ألتى يحتلها العدو الإسرائيلي، فمفهوم المقاومة لتحرير الأرض والدفاع عن النفس أكبر من حزب أو حركة أو تنظيم، بل هو حال إرادة شعبية تحريرية ودفاعية، مما قد يولد مقاومة شعبية في أي لحظة لا تتبع لحزب ولا تتقيد بتوجيهات تنظيم كما حصل بعد الإحتلال الإسرائيلي عام 1982، وهذا مشرع في المواثيق والإتفاقيات الدولية والقوانين الدولية وكذلك في البيان الوزاري للحكومة العتيدة الذي أكد حق لبنان ومن ضمنه الشعب في الدفاع والتحرير، ومن الممكن أن يشجع حزب الله على ظهور مجموعات مقاومة محسوبة عليه ولكن بمرجعيات متنوعة مثل دعم خلايا فلسطينية أو تشكيل وحدات خاصة تحت أغطية مختلفة، مما يكون مفيداً له لتخفيف الضغط الدولي عنه، بعد أن كان قد بات بحكم المؤكد بأن إسرائيل لن تنسحب بصورة كاملة من الجنوب اللبناني في المستقبل القريب بعد إعلان جيشها عن بقائه في خمس نقاط على طول الحدود بين البلدين بصورة موقتة ، وفقاً لوزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، وبعد أنقضاء مهلة الإنسحاب الممددة إلى الـ18 من شباط / فبراير الماضي بموجب إتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، شدد ساعر على أن الإبقاء على هذه النقاط ضروري لأمننا و أنه عندما يفي لبنان بصورة كاملة بالتزاماته بموجب الأتفاق، لن تبقى حاجة إلى الأحتفاظ بهذه النقاط، وفي حين قال رئيس الجمهورية اللبناني العماد جوزاف عون عبر بيان رسمي صادر عن مكتبه إن “لبنان يواصل أتصالاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وفرنسا لأستكمال إنسحاب إسرائيل من الأراضي الباقية ألتي احتلتها خلال الحرب الأخيرة، وتتذرع إسرائيل بعوامل عدة تحول دون إنسحابها بصورة كاملة من الجنوب اللبناني وتسعى إلى فرض واقع جديد عبر تمركزها في تلك النقاط الخمس وهي تلة اللبونة وجبل بلاط وتلة العويضة وكذلك تلة العزية والحمامص، وفي الأثناء تعمل على بناء منشآت مخصصة لمواقع عسكرية، مما يشير إلى أن بقاءها سيكون طويلاً وربما بصورة دائمة.
حمى الله لبنان الشقيق وشعبه العظيم.

المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات

قد يعجبك ايضا