الأمل النديان

د. الطيب النقر

سعى جلال أن يصل إلى جسم عواطف الريان فلم يجد إليه سبيلا ، رغم أنه روادها عليه عشرات المرات ، ولكنها كانت تتمنع عليه ، رغم أنها عاهرة ، تعبد اللذة وتهيم بها ، وغانية ممعنة في السفه والمجون ، ولكنها الآن تسعى أن تكتفي من عشرات الرجال الذين لا يوجد من بينهم جميعاً من يملأ شعاب قلبها بالإعجاب برجل واحد ينهض بكل ما تحتاج إليه ، لقد أزمعت عواطف الموظفة بدار الرعاية الاجتماعية ، أن تنصرف عن مغامراتها التي انخرطت فيها بعد أن أخفقت في زيجتها الأولى، لقد تزوجت عواطف زواجا تقليدياً من بن عمها “محسن”، زواجاً مجدباً من كل عاطفة ، وخالياً من كل فتون ، وفي الحق أنها كانت لا تحس بأي ميل تجاه محسن هذا ، وقد صارحته في وقاحة محضة ، أنها لا تكن له أي ذرة من الشعور ، وأنها تعشق “الدخري” الرقيب بالمدفعية ، لأن الدخري هذا يُحسن كل ما يجهله محسن بن عمها ، ولأن له لساناً تعود أن يهضب بالكلام وهي تنصت ، لسان ذرب يستطيع أن يدني كل فتاة منه ، وصدر واسع له قدرة فائقة على الاحتواء ، لقد كان صدر الدخري يتسق بناؤه ، وتتفق أجزاؤه مع ما تحتاجه عواطف من براكين وأعاصير ، لهذا السبب ولغيره من الأسباب ، خالفت علاقتها بالدخري العرف أشد المخالفة ، فقد وجدت يوماً نفسها بعد أن تاهت مع طيوف الهوى والمرح والاختلاج ، ما يجعلها كئيبة ملتاعة ، على أن العلاقات لم تنقطع بينها وبين الدخري ، بل قاد لأن تمضي في هذا الاختلاط العنيف إلى غير حد ، خاصة بعد أن انتفت عنه ضروب الألم والمعاناة التي كانت تجدها.

والأيام التي لا تسير على وتيرة واحدة ، أرغمت عواطف على أن تبحث عن “النبيل الحادب” الذي يخمد هذه الأصوات الخافتة التي تتناولها بالغمز والطعن ، بعد أن انتهت مسيرة الدخري إلى أدغال الجنوب ، لقد سار الدخري متئد الخطى في نظام واطراد ، مع كتيبته التي يتبع إليها ، إلى ذلك الصقع الحافل بالأهوال والمحن ، غاب شبح الدخري الحبيب والعشيق الذي تمنته زوجاً لها ، ولم تمضي ثلاثة أشهر حتى ظهر ما ينبغي أن يظهر ، فقد دلّ هذا البطن المنتفخ للناس على ما وراءه من حقائق ناصعة ، وتبدل الحال بعد هذا العار الذي ألحقته عواطف بأسرتها ، فلا هي تطمع في بهرجة ، ولا والدها يطمح إلى مهر كبير عاتي ، بل احتمل المشقة والعناء حتى يقنع محسن بن أخيه بأن يرضى بأمر لا يرضاه الناس في يسر وسهولة ، وقد همّ محسن أن يرد معتذراً إلى عمه ، ولكنه تذكر رفض عواطف له ، وزهدها فيه ، وسخريتها منه ، فوافق أن يستر على ابنه عمه ، وحتى لا تمض هذه الأسرة الغضاضة ، ويهون بهم الناس أشد التهوين ، انتقلت إلى بيت بعيد إلى أقصى غايات البعد من تلك الحارة التي كانت تختصم وتحتكم في قصة بنتها.

ومحسن الذي كان متواضع في كل شيء ، متواضع في فهمه ودرايته ، وفي مظهره وهيئته ، وفي رجولته وفحولته ، أظهر الرضا والاذعان للحاجة “الرضية” والدة عواطف التي أخضعت ابنتها لسلسة من النكبات ، أفضت هذه النكبات لاجهاض جنينها ، واستئصال رحمها ، وعواطف التي اتصل بسمعها ، وانتهى إلى عقلها، ما يصك الأسماع ، ويوهي العقول ، أمست تستقبل أيامها ، بالوجه العابس ، والنفس الملتاعة ، والصدر الضيق ، والغيظ الحانق على الدخري الذي أهداها كل هذا البؤس الذي تحفل به حياتها الآن ، لم يدور في ذهنها قط أن قصتها التي ملأت عقول الناس بالعظات والعبر ، يمكن أن تنتهي بها إلى أن تحرمها من الأمومة التي لا سبيل إليها بعد الآن ، لقد كان من العسير على عواطف المشرئبة للأمومة منذ أن استدار جسدها ، واكتملت أنوثتها ، أن تطرد هذه الأخيلة والصور ، والعواطف المختلطة ، التي كانت تثيرها في نفسها حقيقة عدم مقدرتها على الانجاب ، ولم يكن عجزها عن الولادة هو المأساة الوحيدة في حياتها ، فزوجها محسن الذي لم يجد تسلية تلهيه ، وترضيه ، سوى أن يهوي بالسوط على ظهرها في كل غداة وعتمة ، كان يعنفها ويضربها ويسرف في ضربها ، حتى أوشك أن ينهي تلك العيدان الباسقة التي كانت تعج بها شجرة “النيم” القائمة في منزلهم المتهالك الذي استأجره بمبلغ زهيد ، وهو في ضربه إياها يجد التشجيع من والدها الناقم والساخط عليها ، والدها الذي أوشك أن يجهز عليها بالسيف لولا توسلات زوجته “الرضية”، والرجاء يعمل في النفوس ، ويغريها ، ويبعث فيها الحركة بالصفح والتجاوز.

لقد كانت حياة عواطف مع زوجها جحيماً لا يطاق ، فقد كان لا يتحدث معها إلا حينما تدعوه الضرورة الماسة إلى الحديث ، ولا يقربها إلا بعد مجاهدة وعنف ، وكان أكثر ما يهجم عليه ، ويمضي فيه ، هو جريرتها التي ارتكبتها مع الدخري عشيقها الذي فضلته عليه ، لقد أمسى محسن زوجها خصماً مخيفا عنيفا ، وباتت تفكر جادة كيف تفر من حياته الحافلة بالعذاب ، لقد كان لا يفعل شيئاً غير أن يغض منها، ويهون بها ، ويترك آثار كفه الجاف على خدها، لقد كان محسن يعطيها أكثر ما يستطيع أن يعطيها من عصبيته ومزاجه الحاد، لقد عجز حقاً أن يتغاضى عن علاقتها السابقة بالدخري ، فذكراها تجدد سخطه ، وتدفعه لأن يأخذ على نفسه عهداً بالإجادة في تعذيبها والتنكيل بها ، و”عواطف” حتى تنجو من كل هذه الخطوب ، عرضت على زوجها الفارك لها ، بريق المادة التي أغرته بها، ورغبته فيها ، حتى رضخ ، واشترطت عليه أنها لن تدفع له كل ما كان يستودعه عندها الدخري من أجل الاقتران بها ، إلا حين يسافر معها إلى مقر عملها الجديد في مدينة من مدن السودان الواقعة على ضفاف النيل في أقصى الشمال ، فهي تعلم جلياً أن والدها سيقف حجرة عثرة في طريقها ، وأنه سيمنعها عن العمل ، وعن الخروج من المنزل ، وسيجاهد جهاداً واصباً من أجل أن يكرهها على البقاء في غرفتها الضيقة اكراها.

منتجات زراعية
وفي صباح يوم مشرق ، امتطت هي ومحسن القطار المتجه إلى الشمال ، وغادرت العاصمة الحافلة بضروب الجشع ، وفنون النفاق ، وهناك في تلك المدينة الهادئة الوادعة ، استلمت وظيفتها الجديدة، واستمتعت بالنغم العذب ، واللحن البهيج ، بعد أن أوصدت باب معاناتها إلى الأبد ، وحتى تريح نفسها ، وتفرغ بالها ، من عنت حياتها السابقة ، أخذت تشجع نفسها على الإقدام ، ولكن الأمر أعسر من هذا كله وأشد حرجا ، فمن ذا الذي يوافق أن يتزوج من إمرأة لن يكون لها حظ من انجاب ، من هو الذي يستطيع أن يهمل حقه حتى يموت ، وبعد أن فرضت هذه الحقيقة التي لا تستطيع لها تغييراً ولا تبديلا ، قناعاتها على ذهنها المكدود ، أضحت وتيرة نزواتها تضطرم ولا تخبو ، أمسى شيطانها هو الذي يقود ذمامها ، ويجعلها تعصى خالقها بالذنب المستمر الطويل ، صارت عواطف تتردد على شقق كل من تعرفهم ، بل تمضي الليل حتى مع من لم تعرفهم ، أو تسمع من حديثهم شيئا ، يكفي أن تقف في ناصية من نواصي الطرق الحالكة ، فيأتي أحدهم بسيارته الفارهة لتصير فريسته التي لا يرفق بها ، أو يعطف عليها ، أو يحسن الرأي فيها ، بعد أن يسدل الستار على قصته معها.

وعواطف التي أمست هدفاً للشريحة المترفة من سُكان تلك المدينة ، فهم يطمعون فيها ، ويطمحون إليها ، لم تنكر شيئاً من علاقاتها المتعددة بأصحاب الشركات والأرصدة ، فمزاجها يُعنى بتلك الطائفة التي منحتها الأقدار وجاهة المظهر ، وفراهة المركب ، ورفاهية العيش ، ولم يسبق لها أن صدت ثرياً منهم سعى أن يستدرجها إلى مخدعه ، عدا جلال ، ذلك الثري الفائق الثراء ، الذي يسعى دوما وراء كل امرأة حسناء مكتظة الجسم ، وهي لا تدري على وجه التحديد لماذا تذود سعيه وتهالكه عليها بالفتور والاهمال ، قد يكون مأخذها عليه ، أنه طلبها في وضوح وسفور ، ولم يكن من أصحاب اللباقة والظرف والكياسة في كيفية عرض الطلب ، كما أن وجهه الشاحب ، وأنفاسه التي تفوح منها رائحة الخمر جعلها ترفض عرضه وتتمسك بالرفض ، ولكن جلال كان مصمماً على أن ينال ما يبتغيه منها ، فكان يتراءى لها في معظم الأماكن التي تتردد هي عليها ، وحدث وأن حضر إليها في مقر عملها ، ولكنها استخفت عنه ، وبعد أن ضيق عليها الخناق قالت له بعد أن انتظرته أمام مقر شركته:”أنها أغرقت نفسها في هذا التفكير الذي جعلها تبغض حياتها تلك ، وأن تسعى جادة في الزواج من رجل يلتمس لها داراً جديدة ، ويأخذها بضروب الدعة والراحة ، وينسيها كل تلك الأهوال التي ألمت بها”. فوافق جلال دون أن يأخذ نفسه بالروية والتفكير ، ولكن موافقته تلك كانت مقرونة بشرط ، والشرط يتمثل في أن تستقيل من وظيفتها تلك ، وأن تترك هذه المدينة التي سيشقوا فيها بألم الذكرى ، ومرارة المعرفة ، وفداحة التهكم.

وبعد أيام وجدت عواطف نفسها في الخرطوم مجدداً ولكن في شقة واسعة جميلة ، بهذه الشقة فتاة صغيرة بريئة ، لم تكمل أعوامها الخمس ، فتاة تثير في نفس كل من رأها الإعجاب والدهش ، هذه الفتاة هي حفيدة زوجها جلال ، الذي أضحى يستمتع معها بلذة التغاضي ، وحلاوة الغفلة ، ونعيم التجاوز ، فجلال ضاق بهذه الوحدة التي أيقن أنها ستفنيه ، وتبرم من حياته الجامحة التي أوشك أن يقنط من أن تترك له قلباً طاهراً ، وضميراً حي ، لقد كان الملياردير جلال يريد فعلاً أن يعتزل هذه الحياة الخاوية الحافلة بالضجر ، والضيق ، والفراغ ، رغم ما يشوبها من لذة.

جلال يؤثر عواطف الآن بهذا الحب ، لأنه التمس الصدق في حديثها ، ولأنها أظهرت له السمة الدالة على الحياة المتزنة الخالية من أوضار الانحراف ، ولأنها ترعى بنت ابنه الوحيد الذي غاب رسمه عن الوجود ، ولده الذي لقى حتفه هو وزوجته في حادث مروري قبل عدة أعوام ، عواطف إذن استرقت قلب جلال بعاطفتها الملتهبة ، وحسها القوي ، ومشاعرها المتدفقة ، وبحدبها وحنيتها ورعايتها “لرؤي” حفيدته الجميلة.

الكاتب من السودان

قد يعجبك ايضا