“حين تُهمل القيم… يصرخ السلوك”
بقلم الدكتورة: عبير بني طه ….
المقدمة
تربية الطفل ليست مجرد رعاية غذائية أو صحية، بل هي عملية بناء متكاملة لشخصية إنسانية واعية، ترتكز على أسس دينية وأخلاقية وقيمية.
حين تغيب هذه الأسس، تظهر أنماط سلوكية غير سوية لدى الأطفال، مثل العصبية الزائدة، التمرد، أو الانعزال.
هذه السلوكيات لا تنشأ من فراغ، بل غالبًا ما تكون انعكاسًا لتربية غير متوازنة أو بيئة أسرية مضطربة تفتقر إلى التفاهم والاحتواء.
إن التربية الحقيقية ليست قائمة على الأوامر والنواهي فحسب، بل على الفهم والحوار والقدوة الحسنة. هي علاقة تنمو مع الزمن، يُبنى فيها الإنسان من الداخل قبل أن يُوجّه من الخارج. فكل كلمة، وكل تصرف من الوالدين يترك أثرًا عميقًا في وجدان الطفل وسلوكه المستقبلي.
مظاهر السلوك غير السوي لدى الأطفال
من الضروري أن نلاحظ المؤشرات المبكرة للسلوك غير السوي حتى نتمكن من التدخل في الوقت المناسب. ومن أبرز هذه المظاهر:
• العصبية الزائدة والانفعالات الحادة لأسباب بسيطة.
• العناد والتمرد على التوجيهات أو القواعد المنزلية.
• الانعزال الاجتماعي أو العدوانية تجاه الآخرين.
• الكذب أو إخفاء الحقيقة خوفًا من العقاب.
• التبلد العاطفي أو اللامبالاة تجاه مشاعر الآخرين.
• تراجع التحصيل الدراسي وفقدان الدافعية نحو التعلم.
تُعد هذه المظاهر رسائل غير مباشرة من الطفل، تعبّر عن حاجة داخلية لم تُشبع، أو عن اضطراب في بيئته التربوية أو النفسية.
الأسباب الجذرية للسلوكيات غير السوية
1. غياب التربية الدينية والأخلاقية
التربية ليست فقط ضبطًا للسلوك، بل غرس للقيم والمبادئ التي تشكل الضمير الداخلي للطفل.
حين يُستبدل الدين بالقسوة أو يُهمل تمامًا، يفقد الطفل البوصلة الأخلاقية ويصبح أكثر عرضة للاضطراب السلوكي.
إن غرس القيم مثل الصبر، الرحمة، الأمانة، والاحترام منذ الصغر، يحصّن الطفل من الانحراف ويمنحه قوة داخلية لمواجهة تحديات الحياة.
2. الدلال الزائد أو التسلط
الإفراط في التدليل يُضعف قدرة الطفل على تحمّل المسؤولية، بينما التسلّط يولّد الخوف أو التمرد.
فالطفل المدلّل ينشأ على الاعتماد الزائد، فيصعب عليه مواجهة المواقف الصعبة، أما الطفل المقموع فيميل إلى الكبت أو العدوان.
التربية السليمة هي توازن بين الحزم والرحمة، بين منح الحرية وتحديد الحدود بوعي وعدل.
3. تضارب الأساليب التربوية بين الأبوين
حين تختلف توجهات الأبوين في التعامل مع الأبناء، يفقد الطفل الإحساس بالثبات والانضباط.
فمثلاً، عندما تضع الأم قواعد معينة ويقوم الأب بإلغائها بدافع الشفقة، يشعر الطفل بالارتباك ويتعلم استغلال التناقض لصالحه.
لذلك يجب أن يكون هناك انسجام وتفاهم بين الوالدين حول أسلوب التربية لضمان اتساق التوجيهات والقرارات.
4. المشكلات الأسرية والعنف المنزلي
الطفل الذي يعيش في بيئة مليئة بالصراعات أو يشهد العنف اللفظي والجسدي، غالبًا ما يظهر سلوكيات عدوانية أو انسحابية.
فهو يشعر بعدم الأمان وفقدان الثقة بالآخرين، وقد يلجأ إلى العناد أو الكذب كوسيلة دفاعية.
الأسرة المستقرة والعلاقات الهادئة هي الأساس في بناء طفل متوازن عاطفيًا ونفسيًا.
تعديل السلوك: خطوات عملية
1. الاعتراف بالمشكلة دون تعميم
ليس كل طفل عصبي أو عنيد “سيئ السلوك”، فغالبًا ما تكون تلك السلوكيات وسيلة للتعبير عن مشاعر لم يُحسن الأهل فهمها.
الخطوة الأولى في العلاج هي الفهم والاحتواء، لا اللوم أو العقاب.
2. التعاون بين الزوج والزوجة
التربية مسؤولية مشتركة، لا يمكن أن تنجح بجهد طرف واحد.
الاتفاق على قواعد واضحة وثابتة، وتطبيقها بعدل وحنان، يعزز الشعور بالأمان ويُكسب الطفل الانضباط الداخلي.
3. إعادة بناء القيم داخل البيت
يجب تخصيص وقت يومي للحديث عن القيم والأخلاق والقدوة الحسنة، باستخدام القصص الواقعية والمواقف اليومية.
فالقيم لا تُلقَّن بالكلام فقط، بل تُغرس بالفعل والسلوك.
حين يرى الطفل والديه يتحليان بالصدق والرحمة، يتعلمها تلقائيًا دون توجيه مباشر.
4. استخدام أساليب تعديل السلوك
التعزيز الإيجابي: مكافأة السلوك الجيد بالكلمة الطيبة أو التشجيع.
التجاهل المنظم: تجاهل السلوك السلبي البسيط حتى لا يتحول إلى وسيلة لجذب الانتباه.
الحوار الهادئ: استبدال الصراخ بالتفاهم، والتهديد بالنقاش المقنع، فالكلمة الهادئة أكثر أثرًا من العقاب القاسي.
5. طلب الدعم عند الحاجة
في بعض الحالات، قد يحتاج الأهل إلى مساعدة أخصائي نفسي أو تربوي.
اللجوء إلى المختصين ليس ضعفًا، بل وعي ونضج ورغبة في بناء أسرة أكثر استقرارًا واتزانًا.
الخاتمة
الطفل ليس نسخة من والديه، بل كيان مستقل له احتياجاته الخاصة ومواهبه الفريدة.
إن بناء طفل سوي لا يتحقق إلا بتكامل الدين والقيم والأخلاق مع الحب والاحتواء والانضباط.
حين يغيب هذا التوازن، تظهر الاضطرابات السلوكية التي تعكس خللاً في البيئة الأسرية والتربوية.
إن مسؤولية الأهل لا تقتصر على إطعام الطفل أو تعليمه، بل تمتد إلى تهيئة بيئة يشعر فيها بالأمان والانتماء، ويتعلم فيها كيف يحب ويُحَب، وكيف يحيا بقلب سليم وسلوك متزن.
فالتربية الواعية هي استثمار في المستقبل، تبني إنسانًا نافعًا لنفسه ولمجتمعه، وتؤسس لمجتمع أكثر استقرارًا وعدلًا.
بقلم الدكتورة: عبير بني طه.
الكاتبة من الأردن