فادي السمردلي يكتب: الشخوص المتملّقة… ماكينة تفريخ الأبطال الوهميين

بقلم فادي زواد السمردلي  ….

 

*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*

👈 *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*👉

في زمنٍ صار فيه الضجيج أعلى من الحقيقة، تنمو ظاهرة تعظيم الشخوص بلا إنجاز كأنها عدوى اجتماعية تتكاثر في الظلام وتتمدّد حتى تخنق القدرة على التمييز فهي ليست مسألة إعجاب عابر، ولا مجرد سوء تقدير إنها خلل عميق يضرب جذور الوعي العام ويفتح الطريق أمام الصغار ليتسلّقوا على أكتاف الوهم، بينما يُترك أصحاب الفعل الحقيقي في آخر الصف، ينتظرون اعترافاً لا يأتي. الفكرة ببساطة فاضحة هناك من يُرفَعون فوق ما يستحقون، فقط لأنهم يجيدون التمثيل الاجتماعي، لا لأنهم قدموا شيئاً يبقى بعد أن يزول الوهج.

أول أسباب هذه الظاهرة يكمن في الفراغ القيمي والمعرفي الذي تعيشه بعض الشخوص في المجتمعات فعندما يغيب النموذج الحقيقي الذي يستحق الاحتفاء، يُصنع من الشخص العادي بطلاً، لمجرد أنه يجيد الصراخ أو يكرّر شعارات مستهلكة فالناس بطبيعتهم يبحثون عن مرجعيات، عن صوت يتبعونه ووجه يثقون به، لكن حين تختلط المعايير، يصبح السطحي مؤثراً، والجاهل صاحب رأي، والمتسلق “قامة وطنية” يصفق لها المريدون بلا رؤية والمشكلة ليست في الرغبة الفطرية بالبحث عن قدوة، بل في سوء الاختيار، الناتج عن ضعف ثقافي جمعي يجعل أي قشرة لامعة تبدو كأنها معدن نفيس.

من الأسباب أيضاً تلك النزعة الاجتماعية المتجذرة نحو تقديس الأشخاص بدلاً من الأفكار فهناك ميل دائم لربط القضايا بالأفراد، ولتحويل أي شخصية إلى “رمز” فقط لأنها قالت شيئاً يُعجب الجماعة أو وقفت موقفاً عابراً، حتى لو كان خالياً من أي قيمة عملية فهذه الشخصية التي تُضخَّم تُصبح جزءاً من الهوية النفسية للجمهور فيدافع الناس المستفيدين والمتنفعين عنها بضراوة كأنها جزء من ذواتهم، رغم أن الواقع يكشف فراغها كلما اقتربت العين منها وهنا تتكون دائرة مغلقة: شخصية بلا إنجاز تُعظَّم، ثم تتحول إلى “حقيقة” مُسلَّمة لأنها مُعظَّمة، ويستحيل نقدها دون أن يُنظر للنقد كجريمة.

ولا يمكن تجاهل الدور الخطير لبعض من يسمّون أنفسهم “إعلاميين” والإعلام منهم براء فهؤلاء الذين يجيدون الظهور في الواجهة أكثر مما يجيدون احترام المهنة، فيصبّون الضوء على من لا يستحق، ويفتحون لهم أبواباً لم يكن يجب أن تُفتح فهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل عن مادة جاهزة للانتشار كشخص كثير الكلام، قليل المعرفة، يعشق الظهور ويمنحهم ما يريدون من صخب وهكذا يصبح المتسلق “خبيراً”، والهاوي “محللاً”، والسطحي “شخصية عامة” وهؤلاء ـ بجهلهم أو بمصلحتهم ـ يدفعون بالمشهد العام إلى الانحدار، لأنهم يمنحون مساحات واسعة لمن لا يملك سوى الرغبة في اللمعان.

التأثير لا يتوقف عند حدود البرّاقة بل يتعدّاها ليعبث بصلب المجتمع وحين تتصدر أسماء فارغة الواجهة، يتراجع أصحاب الخبرة والمعرفة إلى الخلف فيتعلم الناس بأن النجاح الحقيقي لا قيمة له، وأن الأثر لا ضرورة له، وأن الصورة أهم من الجوهر والشباب الذين يشاهدون هذا المشهد يومياً يلتقطون رسالة خطيرة فلا حاجة لأن تتعلّم أو تعمل أو تبذل جهداً، يكفي أن تتقن الظهور وأن تصنع ضجيجاً، وستحصل على المكانة نفسها وربما أعلى وهكذا تتشكل أجيال تُربّى على قيم مقلوبة، تُكافئ الصوت لا العقل، والواجهة لا الفعل.

الأخطر أن تعظيم الشخوص بلا إنجاز يخلق بيئة مشوّهة تُتخذ فيها القرارات بناءً على السمعة المصنوعة لا على الكفاءة فيصبح صاحب الصوت العالي أكثر تأثيراً من صاحب الرؤية، ويُستشار من يجيد التمثيل أكثر ممن يجيد العمل وحين يحدث هذا، لا يمكن لأي مجتمع أن يتحرك للأمام، لأن من يقوده ليسوا أهل قيادة، بل أهل ضوضاء.

هذه الظاهرة ليست مجرد انحراف اجتماعي، بل تهديد مباشر للوعي. إنها تجريف للعقول، لأنها تجعل الباطل شبيهاً بالحق، وتمنح للفراغ هيبة مصطنعة وكلما تمادت، زادت المسافة بيننا وبين تطوير مجتمع يحترم الإنجاز الحقيقي ويضع كل شخص في مكانه الطبيعي.

ولا مخرج من هذا المستنقع إلا بكسر هذه الهالات الورقية، وإعادة الاعتبار للقيمة الفعلية، والاحتفاء بمن يعملون بصمت أكثر مما يتكلمون لأن المجتمعات لا تنهض بالأصوات العالية، بل بالأيدي التي تبني، وبالعقول التي تنتج، وبالضمائر التي تعرف الفرق بين الشخص الذي يستحق الرفعة، والشخص الذي لا يملك سوى بريق زائف يختفي بمجرد أن تنطفئ الأضواء.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا