فادي السمردلي يكتب: ضمير للبيع قراءة في أسباب الانكسار الأخلاقي وبيع الصوت بسعر زهيد
بقلم فادي زواد السمردلي ….
*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*
👈 *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*👉
إنّ فكرة أن يبيع الإنسان ضميره مقابل اشتراك بسيط، أو مبلغ زهيد، أو أي منفعة تافهة لا تساوي شيئاً أمام قيمة المبادئ، ليست مجرّد سلوك عابر يمكن تفسيره ببساطة، بل هي علامة على تآكل داخلي وأزمة قيمية عميقة تتجاوز حدود الفعل نفسه وتصل إلى البنية النفسية والاجتماعية والثقافية التي أنتجته فبيع الضمير ليس مجرد صفقة مالية، بل هو جرح في هوية الإنسان الأخلاقية، وتحويل لشيء يفترض أن يكون غير قابل للمساومة إلى سلعة يمكن تسعيرها بأرخص الأثمان.
يبدأ هذا الانحدار عادةً بصوت مُنهك في داخله، صوت يهمس بأن المبادئ يمكن تأجيلها، وأن القيم يمكن استبدالها، وأن الكرامة لا تُطعم خبزاً، وأن الانتماء لمن يدفع أسهل من مواجهة الواقع وحين يضع الإنسان قناع اللامبالاة ليتحايل على شعوره بالذنب، يصير مستعداً لقبول مقابل هزيل لقاء ما هو أعمق وأكثر جوهرية من المال نفسه فأن يبيع ضميره مقابل اشتراك شهري أو هدية بسيطة، أو حتى وعد لا قيمة له، يعني أنه قبل بتقزيم ذاته، وجعل من نفسه رقماً في قائمة يمكن شراؤها أو التخلي عنها في أي لحظة.
لكن لماذا يحدث ذلك؟ غالباً ما تتداخل عدة عوامل فهناك من يفعل ذلك بدافع الحاجة أو الفقر، فيجد نفسه محاصراً بين ضيق الحياة وضغط المجتمع ليختار أهون الشرّين من وجهة نظره، فيترك ضميره على الهامش بحثاً عن نجاة مؤقتة وهناك من يفعل ذلك بدافع الطمع والرغبة في المكاسب السريعة، فيتحول المال مهما كان تافهاً إلى معيار يحدد مواقفه وولاءاته وهناك أيضاً من يفعل ذلك بدافع الضعف النفسي، حيث يفقد القدرة على قول “لا”، ويبحث عمّن يحدد له خياراته مقابل فتات يلقى إليه وفي كل حالة، يبقى القاسم المشترك هو هشاشة المنظومة الأخلاقية وغياب القدرة على مقاومة الإغراء، مهما كان ضئيلاً.
إنّ خطورة هذا الفعل لا تقف عند حدود الشخص الذي باع ضميره، بل تمتد إلى المجتمع الذي يعيش فيه. فحين يتحول الضمير إلى سلعة، تتحول الثقة العامة إلى وهم، وتصبح القرارات والأصوات والمواقف أدوات للبيع والشراء، فينهار معيار التمييز بين الصواب والخطأ وتذوب المسؤولية الأخلاقية في بحر المصالح الصغيرة، ويعمّ شعور عام بأن كل شيء قابل للمقايضة، وأن القيمة الحقيقية ليست في المبدأ، بل في الثمن وهكذا، تتآكل الروابط الاجتماعية، وتضعف المؤسسات، ويتحول المجتمع إلى فضاء رمادي تتماهى فيه المواقف المفبركة مع المواقف الحقيقية، فلا يعود أحد قادراً على معرفة من يتكلم بضميره ومن يتكلم بجيبه.
أما على المستوى الفردي، فإن أخطر ما يخسره من يبيع ضميره ليس صورته أمام الآخرين، بل صورته أمام نفسه إذ يبدأ هذا الشخص بفقدان احترامه لذاته، ويتحوّل الشعور الداخلي بالعار إلى ظل يطارده، حتى وإن حاول إخفاءه بادعاء القوة أو الذكاء أو البراغماتية فالإنسان قد يبرر خيانته لقيمه مرة أو مرات، لكنه لا يستطيع إسكات صوته الداخلي إلى الأبد، فذلك الصوت الذي ينشأ من عمق الضمير لا يموت، بل يتراكم، ويذكّره بأن ما حدث لم يكن سوى انكسار أمام ثمن لا يستحق.
في النهاية، بيع الضمير مقابل ثمن بسيط ليس دليلاً على حاجة ماسة أو ذكاء اجتماعي، بل هو تعبير عن ضعف جوهري في البنية الأخلاقية والإنسانية وما قد يبدو مكسباً لحظياً يتحوّل في الحقيقة إلى خسارة طويلة الأمد، لأن الضمير حين يُباع مرة يصبح قابلاً للبيع مراراً، وتصبح النفس مستعدة للتنازل أكثر فأكثر. لذلك، فإن حماية الضمير ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية، لأن الإنسان بلا ضمير ليس سوى ظلّ يتحرك، لكنه لا يعيش حقاً.
الكاتب من الأردن