فادي السمردلي يكتب: الدراسة الاكتوارية للضمان الاجتماعي… إنذار مبكر قبل فوات الأوان

بقلم فادي زواد السمردلي  ……

 

*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*

تأتي نتائج الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة للمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي لتضع الرأي العام وصنّاع القرار أمام صورة مزدوجة المعالم.واقع مالي مستقر في الحاضر، يقابله مستقبل يحمل تحديات حقيقية تستدعي التفكير الهادئ والإصلاح المبكر فهذه الدراسة، التي تُجرى دوريًا كل ثلاث سنوات، لا تهدف فقط إلى عرض أرقام مالية، بل تشكّل أداة تشخيصية عميقة لمسار أحد أهم أعمدة الحماية الاجتماعية في الأردن.

تشير النتائج بوضوح إلى أن الوضع المالي الحالي للمؤسسة جيد ومستقر، وأن صناديق التأمينات التي تديرها قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المشتركين والمتقاعدين اعتمادًا على إيرادات الاشتراكات والعوائد الاستثمارية والأصول المتراكمة وهذا الواقع يعكس سلامة الإدارة المالية خلال السنوات الماضية، ويمنح قدرًا من الطمأنينة بأن النظام التأميني لا يواجه خطرًا وشيكًا كما أن امتداد هذا الاستقرار حتى عام 2030، وفق التقديرات الاكتوارية، يُعد مؤشرًا إيجابيًا في المدى القصير والمتوسط.

غير أن القراءة المتأنية للدراسة تكشف أن هذا الاستقرار ليس ضمانة دائمة، بل نافذة زمنية محدودة تتيح فرصة للإصلاح. فتحديد نقطة التعادل الأولى في عام 2030، حيث تتساوى الإيرادات التأمينية المباشرة مع النفقات، يعني أن الفوائض التشغيلية ستبدأ بالتآكل بعد هذا التاريخ أما نقطة التعادل الثانية المتوقعة في عام 2038، والتي تصبح عندها الإيرادات التأمينية والعوائد الاستثمارية غير كافية لتغطية النفقات، فهي تطرح سؤالًا جوهريًا حول قدرة النظام على الاستمرار بذات القواعد الحالية دون تعديل.

أحد أبرز العوامل التي تفسر هذه المؤشرات المستقبلية يتمثل في ارتفاع كلفة تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة، وهو التأمين الأكبر والأكثر تأثيرًا على الوضع المالي للمؤسسة ورغم أن هذا التأمين لا يزال يتمتع بوضع مالي جيد، إلا أن الدراسة تظهر أن موجودات المؤسسة المقدّرة تقل عن عشرة أضعاف نفقاتها التأمينية للسنة العاشرة من تاريخ التقييم، وهو معيار يستدعي الانتباه من منظور اكتواري طويل الأمد. هذا الواقع يعكس الحاجة إلى إصلاحات تضمن استمرار هذا التأمين في أداء دوره للأجيال القادمة.

وتبرز ظاهرة التقاعد المبكر كأحد أهم أسباب الضغط على هذا التأمين. فقد أظهرت الدراسة أن 64% من المتقاعدين هم من فئة التقاعد المبكر، وأن كلفتهم تشكل 61% من إجمالي فاتورة الرواتب التقاعدية وهذه الأرقام تعكس اختلالًا واضحًا بين سنوات الاشتراك وسنوات الاستفادة، وتؤشر إلى تحول التقاعد المبكر من خيار استثنائي إلى مسار شائع ومن منظور حيادي، فإن هذا الاتجاه يصعب تبريره اكتواريًا، خاصة عند مقارنته بالتجارب الدولية التي تسجل نسب تقاعد مبكر أقل بكثير.

إلى جانب ذلك، تلعب العوامل الديموغرافية دورًا متزايد التأثير في مستقبل النظام التأميني. فارتفاع متوسط العمر المتوقع، وتراجع معدلات الخصوبة، وانخفاض أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، كلها عوامل تقلص القاعدة الممولة للنظام مقابل توسع قاعدة المستفيدين فهذه التحولات ليست مؤقتة، بل هي اتجاهات طويلة الأمد، مما يعني أن التعامل معها يتطلب حلولًا هيكلية لا إجراءات ظرفية.

كما لا يمكن إغفال أثر التهرب التأميني واتساع شريحة العاملين غير المشمولين بالضمان الاجتماعي، والتي تشكل ما يقارب 22.8% من العاملين في القطاع المنظم وهذا الواقع يمثل تحديًا مزدوجًا، إذ يحرم المؤسسة من إيرادات محتملة، ويترك شريحة واسعة من العاملين خارج مظلة الحماية الاجتماعية، مما يضعف العدالة الاجتماعية ويزيد من هشاشة سوق العمل ومن هنا، فإن توسيع قاعدة الشمول يُعد ركيزة أساسية لأي مسار إصلاحي مستقبلي.

في ضوء هذه المعطيات، تبدو الدعوة إلى إجراء تعديلات تشريعية على قانون الضمان الاجتماعي مبررة من الناحية الفنية إلا أن جوهر التحدي لا يكمن في مبدأ التعديل بحد ذاته، بل في كيفية تنفيذه. فالإصلاحات الناجحة هي تلك التي توازن بين الاستدامة المالية والعدالة الاجتماعية، وتحمي أصحاب الدخول المتدنية، وتراعي المؤمن عليهم الذين أمضوا فترات اشتراك طويلة، مع تطبيق تدريجي يتيح للمجتمع التكيف مع التغييرات.

ضمن هذا السياق، يشكل إطلاق حوار وطني شامل، عبر مظلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، خطوة إيجابية ومطلوبة غير أن قيمة هذا الحوار ستقاس بمدى شموليته وشفافيته، وبقدرته على إشراك مختلف الأطراف المعنية والخبراء، وطرح السيناريوهات بوضوح أمام الرأي العام، بعيدًا عن القرارات المفاجئة أو الأحادية.

في المحصلة، يمكن القول إن الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة تطمئن إلى أن الضمان الاجتماعي يقف اليوم على أرضية صلبة، لكنها في الوقت نفسه تطرح أسئلة مشروعة حول الغد فالاستقرار الحالي فرصة ثمينة للإصلاح الهادئ لا مبرر لإهدارها. وبين أرقام الحاضر ومؤشرات المستقبل، تبرز مسؤولية جماعية لضمان أن يبقى الضمان الاجتماعي نظامًا قادرًا على حماية الأجيال الحالية والقادمة، ماليًا واجتماعيًا، دون أن يفقد توازنه أو ثقة المجتمع به.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا