الصهيونية المسيحية: تفكيك المصطلح وتفنيد التوظيف

يتجدد كل فترة الحديث عن الصهيونية المسيحية خاصة مع لحظات الاحتدام الكبرى فى الشرق الأوسط. إذ تتم إعادة تدوير للمصطلح فى إطار دفاعى، وهو أمر مشروع، فى معركة الصراع العربى – الإسرائيلى. إلا أن إعادة التدوير هذه يجانبها التوفيق إذ تتم فى ظل استدعاء يفتقد الدقة للمصطلح، يترتب عليه انحراف المفهوم عن معناه الحقيقى. ما يؤدى إلى بلبلة الرأى العام وإحداث استقطاب حاد بين الجمهور يجعل من الموقف الدفاعى الذى يتطلب التضامن والتماسك بين عناصر هذا الجمهور يتحول إلى موقف يسوده السجال.

(٢)

إن أول ملاحظة تتعلق بعملية تدوير المصطلح هى الإصرار على استخدام تعبير «المسيحية الصهيونية بدلا من الصهيونية المسيحية Christian Zionism؛ وبالطبع، لا يدور الأمر حول ترتيب الكلمات وأيهما يأتى فى البداية: الصهيونية أم المسيحية. لأن هناك اختلافا جذريا وكليا بينهما ينعكس من حيث الدلالة والتأثير على الجمهور ووعيه ومن ثم مواقفه. لذا فالتمييز بين «الصهيونية المسيحية» و«المسيحية الصهيونية» ضرورى، ليس على المستوى اللغوى فحسب، وإنما على مستوى البنية الفكرية واللاهوتية والسياسية. إن شيوع استخدام مصطلح «المسيحية الصهيونية» يكرس وعيا زائفا لأنه يوحى بوجود مسيحية ــ فى الأصل ــ أو بنية لاهوتية مسيحية تولد الأفكار الصهيونية. بينما العكس هو الصحيح. فالصهيونية هى الأصل، بيد أنها وحتى تصل إلى مبتغاها فإنها تلوى عنق النصوص المسيحية بما يخدم المشروع الصهيونى. وعليه دعونا دوما إلى عدم استخدام مصطلح المسيحية الصهيونية قط: كتابة وشفاهة.

ونشير هنا إلى أن الدكتور عبد الوهاب المسيرى (١٩٣٨- ٢٠٠٨)، فى موسوعته المرجعية: «اليهود واليهودية والصهيونية ــ ١٩٩٩»، نادى باستخدام مصطلح: الصهيونية ذات الديباجة المسيحية. وقد قمنا بتطوير ما طرحه المسيرى عندما لاحظنا غلبة السياسى على استعارات الصهيونية من النص المسيحى للتخديم على الأزمات المتلاحقة فى الشرق الأوسط. وعليه طرحنا الأخذ بالمصطلح التالى: الصهيونية ذات التوظيف المسيحى؛ راجع دراستنا المنشورة فى أعمال مؤتمر إسرائيل من الداخل، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة- ٢٠٠٣.

(٣)

فى تفنيد المفهوم

تعتمد الصهيونية المسيحية (ذات التوظيف المسيحى) على ما يمكن أن نطلق عليه الانتقائية النصية أى انتقاء نصوص بعينها وعزلها عن سياقها التاريخى واللاهوتى وذلك لتحقيق العقيدة الصهيونية التى: أولا: تؤمن حصرية الاصطفاء الإلهى لشعب بعينه دون شعوب العالم الأخرى. وثانيا: تديين الأرض أو تهويدها حصريا لتكون ملكا للشعب المختار. وثالثا: تبرير الإقصاء والإزاحة للآخرين وإن لزم الأمر استخدام العنف. والمسيحية، يقينا، تعد نقيضا للفكرة/ الأفكار الصهيونية. بلغة أخرى، تتجاوز المسيحية العرق والأرض بكل ما يحملان من دلالات وتبريرات جيو- سياسية وصراعية. بينما تصارع الصهيونية من أجل العرق والأرض، وذلك كما يقول مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل (١٨٦٠- ١٩٠٤) لضمان: »الحصول على مساحة من الأرض كبيرة لبسط السيادة عليها لنجسد أمتنا اليهودية على وطن يهودى يعيش فيه شعب يهودى فقط».

(٤)

فى تاريخية شرعنة الصهيونية المسيحية

وعلى ضوء المقولة الهرتزلية «ولدت الصهيونية المسيحية من رحم الصهيونية: الفكرة/الحركة سنة ١٨٩٧؛ ومنذ ذلك التاريخ أخذت تلك الفكرة/ الحركة بتوظيفاتها المختلفة: العامة، والتصحيحية، والفاشية، والعلمانية، والمسيحية، التوطينية، والصهيونية الاستيطانية، والصهيونية العمالية، والصهيونية الإثنية الدينية… إلخ، على عاتقها مسؤولية تنفيذ عملية «شرعنة» قسرية مزدوجة: سياسية ودينية لتزوير تبرير السطو التاريخى للأرض لصالح عنصر واحد بعينه. فيما يتعلق «بالشرعنة السياسية»: قامت بالترويج لفكرة الحق التاريخى وذلك بالنص عليها – دون تفاصيل- فى كل الوثائق الأوروبية، والصهيونية، والدولية مثل: التفسير الذى شاع لشرح وعد بلفور ١٩١٧ بأنه «تعويض تاريخى لليهود عن كل ما عانوه»، كذلك ما ورد فى مذكرة المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام فى جنيف سنة ١٩١٩ بأن: هذه الأرض هى المقر التاريخى لليهود، وأيضا ما أكده ــ فى هذا الإطار ــ إعلان قيام دولة إسرائيل فى ١٤ مايو ١٩٤٨ بأنها قامت فى فلسطين: بفضل الحق الطبيعى والتاريخى للشعب اليهودى (يراجع الكتاب العمدة: «الماركسية والدولة الصهيونية: الوجود والكيان»، للمفكر المصرى الماركسى المسيحى الكبير أديب ديمترى ٢٥٠ صفحة ــ ١٩٧١). أما بالنسبة «للشرعنة الدينية»: فقد تم صبغ فكرة «الحقوق التاريخية» بالمبادئ التوراتية- الدينية- التى تمنح الإسرائيليين ثلاث منح إلهية: الاصطفاء الإلهى باعتبارهم شعب الله المختار دون غيرهم، ومن ثم الوعد الإلهى بالأرض باعتبارها أرض الميعاد لهؤلاء المختارين وحدهم دون غيرهم، ما يرتب لهم الحق الإلهى فى امتلاك الأرض وتحريرها، حسب الأدبيات الصهيونية، كى يتم تسلم الأرض فارغة حتى يتسنى للشعب اليهودى أن يعود إلى الأرض الموعود بها منفردا وإقامة دولة نقية قوميا ودينيا.

(٥)

فى مواجهة الاستعارة المشوهة

إن الصهيونية المسيحية هى طبعة من الطبعات المتعددة للصهيونية الساعية إلى الاستيطان والتوسع وحتمية «الترانسفير» للفلسطينيين بالطرد، أو الإبادة، أو التفريغ، أو التطهير… إلخ. لقد تم اختراع هذه الطبعة من خلال اختطاف اللاهوت المسيحى من حقيقته المُحبة والمنفتحة والجامعة وإعادة توظيفه كأيديولوجيا كارهة ومغلقة وإقصائية. وعليه عملت على إعادة تفسير النص التوراتى بما يخدم، فى المحصلة، السعى الخبيث. وفى مواجهة هكذا صهيونية توظف الدين لصالح مشروعها السياسى غير الإنسانى/الأخلاقى/ الشرعى النافى للحقوق والمستبيح العنف لأقصى مدى، فإنه لا بد من امتلاك المعرفة وتحرى الدقة فيما يتم تداوله من مصطلحات ومفاهيم. ولعل أول ما يجب اتباعه التسلح بالتراكم المعرفى للأدبيات التى تناولت موقف المسيحية من الصهيونية عموما والصهيونية المسيحية خصوصا. ففى هذا المقام، اجتهدت النخبة المدنية والدينية المصرية والعربية المسيحية والمسلمة على السواء فى بناء ما يمكن أن نطلق عليه جدار حماية Fire Wall؛ يقوم على وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا وصراعات السياسة والدين ومؤامرات الاستعمار. بدأ بناء هذا الجدار من الأدبيات الفكرية واللاهوتية والسياسية عبر ثلاث مراحل: أولاها تأسيسى قبل ١٩٦٧، وثانيتها مُواجه فى ظل الفترة الممتدة من حرب ١٩٦٧ وحتى عبور ١٩٧٣، وثالثتها اشتباكى فى ظل المرحلة السلامية التى لم تخلُ من حروب، وذلك من بعد منتصف السبعينيات وحتى يومنا هذا (فى دراسة لنا رصدنا ما يقرب من ثلاثين اسما من النخبة القبطية يمثلون شتى التوجهات التى اجتهدت فى هذا المقام). أما ثانى ما يجب عمله هو إعادة توفير تلك الترسانة من الأدبيات. الخلاصة، إن الصهيونية المسيحية لا تمثل تفسيرا/ تأويلا للنص/ اللاهوت المسيحى، بل تعد خروجا عليه من خلال «مسحنة» المشروع الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى. أى أن المسيحية، فى هذه الحالة، مجرد استعارة مشوهة توظف للتغطية على هذا المشروع الذى يجب تضافر كل الجهود على دحضه ونقده لصالح العدالة والتحرر.

الكاتب من مصر

المصدر : المصري اليوم

قد يعجبك ايضا