سوء التفاهم مع هولندا… منذ زمن سليمان القانوني
قبل خمسة قرون من تاريخه، أو أقلّ منها بقليل، كان السلطان العثماني سليمان القانوني، الطامح ليس فقط لتكريس وراثته لعرش بيزنطية، بل لوراثة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية نفسها، يوجّه مبعوثيه لمساعدة الأمراء المتمرّدين في هولندا ضد آل هابسبورغ، معوّلاً على ما بدت له من علامات تقارب بين حركة الإصلاح (البروتستانتية) وبين الدين الحنيف. كانت هذه من علامات «سوء التفاهم» في مطالع الأزمنة الحديثة. انبنى سوء التفاهم هذا على المبالغة في تقدير علامات التلاقي بين الإسلام وبين البروتستانتية، وصولاً إلى تخيّل الأخيرة كحركة انتقالية من المسيحية نحو الإسلام. كما انبنى على المبالغة في تقدير «وحدة الحال» بين الموريسكيين المسلمين الذين يقاسون حكم آل هابسبورغ في الجنوب الإسباني منذ سقوط غرناطة والذي سينتهي الأمر بتهجيرهم بعد ذلك بقرن، وبين هولندا التي تخوض كفاحاً مريراً للتحرّر من حكم آل هابسبورغ دام قرناً بأكمله.
كان هذا «سوء التفاهم» الأوّل بين هولندا وبين الشرق الإسلامي الذي قادته لقرون طويلة الدولة العثمانية. اندرج في إطار تنافس بين سليمان القانوني وبين شارل الخامس لتقديم نموذجين مختلفين عن حلم واحد، الحلم بمملكة كونية تجمع الأجزاء الأساسية من المعمورة، يتوطّد عودها في أوروبا وتشمل بفئيها جزائر ما وراء البحار. كان شارل الخامس آل هابسبورغ على رأس امبراطورية مقدسة رومانية جرمانية تشمل معظم أوروبا غير العثمانية، والمستعمرات الإسبانية في القارة المكتشفة حديثاً، أمريكا. وكان سليمان القانوني على رأس امبراطورية رومانية إسلامية، تعمل من بعد فتح القسطنطينية ثم غزو حوض الدانوب، على الفوز بالبلاد الألمانية كلّها، وعلى فتح روما، وإستعادة الأندلس، لكنها تعمل أيضاً على إبعاد الخطر البرتغالي عن الممالك الإسلامية في المحيط الهندي، وبالتالي تطوير تجربتها البحرية الخاصة، الأمر الذي سيصل في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حتى آتشيه في سومطرة، بأندونيسيا.
بتدمير الأسطول العثماني في معركة ليبانتيه البحرية عام 1571، نجح آل هابسبورغ في إحباط الحلم السلطاني بالمملكة الكونية، من دون أن يذهبوا بعيداً هم أيضاً في نموذجهم عن هذه المملكة الكونية، إذ كانت المسارات المفضية إلى تشكّل الدول ـ الأمم والأمم القومية آخذة في التبلور، تساعدها خارطة الإنقسام الكاثوليكي ـ البروتستانتي هنا، أو تكبحها هناك. فبعد سنوات قليلة على هزيمة العثمانيين البحرية في ليبانتيه، كانت بداية الاستقلال الهولندي عن امبراطورية آل هابسبورغ، مع «اتحاد اوترخت» عام 1579.
فكان «سوء تفاهم ثان»: فهذا الإقليم الذي كان ينظر اليه كإقليم طرفي في امبراطورية آل هابسبورغ، وكمستعمرة إسبانية لفترة أطول، لن يكتفي بصناعة كيانه الخاص والإستقلال. سيبني امبراطوريته الإستعمارية بشكل ناجح وسريع، وسيكون للتجارة مع العثمانيين دوراً كبيراً في تمكين هذه الإمبراطورية، بالشكل الذي يجعل من إقامة التجار العثمانيين في البلاد الواطئة من أقدم الجاليات الإسلامية في أوروبا الشمالية. أما المفارقة الكبرى ففي تمكّن هذا البلد الصغير، هولندا، من استعمار أرخبيل شاسع بحجم ما كان يعرف بالهند الهولندية، وما صار يعرف بإسم أندونيسيا، أي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان اليوم.
ليس الإسلام بالشيء «البرّاني» تماماً بالنسبة إلى الأمة الهولندية إذاً. هو «إسلام» راهن عليها في بداية تشكّلها في مناهضة آل هابسبورغ والكاثوليكية. راهن بأن تصير جزءاً من أمّة الإسلام. ثم هو «إسلام» انكفأ في معرض المنافسة على منزلة «المملكة الكونية» مع آل هابسبورغ، في نفس اللحظة التاريخية لبداية استقلال هولندا عن هذه المملكة الكونية. وهو «إسلام» عاد وعرف الهولنديين كمستعمرين لأرخبيله الأندونيسي، في الفترة التالية مباشرة لإعتناق غالبية أبناء هذا الأرخبيل الدين الحنيف، بل في الفترة التالية مباشرة لانكفاء العثمانيين عن «الوصل» بأندونيسيا، بعد أن كانت لهم فيها جولات إمداد لأمراء سومطرة في مواجهة البرتغاليين.
بإزاء هذين النمطين التاريخيين من «سوء التفاهم» بين الشرق الإسلامي ـ العثماني لقرون طويلة، وبين هولندا ـ صاحبة أكبر مستعمرة إسلامية لقرون، قد تبدو المشاحنة الأخيرة بين الحكومة التركية وبين هولندا فيها شيء من الطرافة. فيها نوع آخر من «سوء التفاهم» أيضاً. في هذه الحالة، يتخذ سوء التفاهم شكل قذف الآخر بتهمة الفاشية.
اليمين المتطرّف الهولندي مثلاً، لا يعتبر نفسه يميناً متطرّفاً، يعتبر أنّه يدافع عن حقوق النساء والمثليين أكثر من منافحته عن القومية كما يفعل أترابه في اليمين المتطرف في البلدان المجاورة. يروّج لـ»رهاب إسلامه» على هذا الأساس، يعتبر أنّ حربه هو ضد ما يسميه «الفاشية الإسلامية». ينتهي الأمر قبل سنوات بالسينمائي آرنود فان دوم أحد وجوه «الحزب من أجل الحرية» اليميني المتطرف الإسلاموفوبي، الذي ساعد خيرت فليدرز، قيادي الحزب، في فيلم «فتنة» الهجومي ضد القرآن ونبي الإسلام، إلى التوبة واعتناق الإسلام، والقيام بمناسك الحج.
الحزب التركي الحاكم يستعيد في المقابل النعرة ضدّ الفاشية والنازية كمرادفة للإسلاموفوبيا، والتركوفوبيا، والفوبيا من شخص رجب طيب أردوغان نفسه. تعويل، عشية الإستفتاء على الإصلاحات الدستورية، على دمج الشعورين القومي والإسلامي في تركيا أكثر من أي وقت مضى في كلّ واحد. طبعاً، لا يمرّ في خاطر أي من المساجلين اليوم، على خط المشاحنة التركية الهولندية، أن كتاب ستيفان ايهرينغ «أتاتورك في المخيلة النازية» قد صدر العام الماضي، وأنّه أحدث عتبة جديدة في الدراسات حول تشكّل الوعي الفاشي والقومي ـ الإشتراكي، بإظهاره كم لعبت شخصية وتجربة مصطفى كمال في الحرب والبناء القومي دوراً ملهماً على بنيتو موسوليني ثم أدولف هتلر. كما لو أنّه في تاريخ تراكمي من «سوء الفهم» الحيوي، بين هولندا وتركيا، ليس هناك مكان لهذا الأثر، عند التراشق بتهمة الفاشية.
بقي أنّ «سوء التفاهم» الأكثر راهنية اليوم هو التداخل بين مسألتين: وضع المهاجرين غير الشرعيين، وما يطلبه الغرب من تركيا من هذا الجانب، ووضع المهاجرين القانونيين، الجاليات التركية في أوروبا الغربية، بما هي جاليات لدولة عضو في حلف شمالي الأطلسي، عملت طويلاً على الدخول للاتحاد الأوروبي، وصارت مع الوقت دولة صناعية. «التركوفوبيا» الهولندية أو الألمانية تبدأ من هنا: التعامل مع المهاجر القانوني، كقابلة قانونية للمهاجر غير الشرعي. ومن ثم التعامل مع وزراء في الحكومة التركية، قدموا لاعتلاء منابر في تجمعات انتخابية على خلفية الاستفتاء التركي، بوصفهم «غير شرعيين». وفي المقابل، «غربوفوبيا» تركية لم تعد تعرف إن كان مقصدها، للإطاحة بأثر أتاتورك التغريبيّ، هو خوض الحملة ضده من قلب روتردام.
٭ كاتب لبناني
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
