محاربة عبدالرحمن منيف والتحارب به

محمد العباس

لأن اللحظة طائفية بامتياز، كان لا بد من استجلاب عبدالرحمن منيف من قبره وحبسه بكل تاريخه الابداعي في قفص الطائفية، أو استخدامه كوقود لحروبها العبثية. وفي هذا السياق أثار فالح عبدالجبار ما سماه بقضية انتحال سيرة السجين العراقي حيدر الشيخ علي في رواية ( الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى ) بعد ربع قرن على صدورها. وذلك في مقال بجريدة الحياة بتاريخ 31 آذار/مارس من العام الحالي، ليزج بالواقعة الأدبية في الحرب ضد (أصحاب العمائم). 
وكانت الطعنات قد وجهت من قبل للروائي الذي نذر خطابه من أجل الحرية. حيث اشتغل التأويل الطائفي على قراءة اللاوعي عند عبدالرحمن منيف، بحيث دفعه ذلك الاصطفاف الطائفي اللاواعي – من منظور المتأولين – إلى تسمية بعض شخصياته السلبية بأسماء تحيل إلى مكامن ومرموزات طائفية. وهذا جهد تأويلي، بقدر ما يحتاج إلى إثبات نقدي، هو بحاجة إلى قراءة منفتحة ومنصفة تتجاوز مقاصد التسقيط والثارات المبيّتة.
منذ أن بدأ عبدالرحمن منيف يطرح نفسه كمدافع عن بقاء الإنسان العربي وكرامته وحريته وهو يواجه حملة شرسة لدرجة أنه كان يوصف بكاتب منشورات سياسية لا مبدع روايات. إلا أن التهمة هذه المرة تجاوزت خط الإبداع إلى جريرة (الانتحال). حيث اتهمه فالح عبدالجبار بأنه مجرد مفرغ أشرطة مسجلة، خصوصاً فيما يتعلق بمقاطع هامة من الرواية (هوامش أيامنا الحزينة. مضمون قسم حرائق الحضور والغياب. منقول نصاً عن مذكرات حيدر المسجلة صوتياً). 
هذا بالإضافة إلى (موتيفات منها في القسم الثالث). وهو ما يعني في رأيه أن (الرواية اعتمدت بشكل شبه كامل على ذكريات حيدر). كما تعمد منيف – حسب تصوره (إلباس البطل طاقية إخفاء أو إغفال المصدر). وهو الأمر الذي أثار حيرة واستنكار حيدر الشيخ حينها. كما أعاد التذكير بـ (محنته في السجن ومحنته في سلب هويته وتجربته). وذلك من خلال اتصال هاتفي جرى بينهما في الخامس والعشرين من آذار/مارس أيضاً. وهذا هو بالتحديد ما دفعه لتدوين شهادته.
حيدر الشيخ علي أكد لجريدة عكاظ في الثاني عشر من نيسان/أبريل كل ما جاء به فالح عبدالجبار. وأنه هو طالع العريفي بطل الرواية. وأن الوقائع حدثت في سجن إيفين شمال طهران. معبراً عن حزنه (لعدم ذكره ولو على سبيل التعليق في الهامش بأن العمل مستوحى من سيرة واقعية). كما شدّد على أنه لا يكن لمنيف أي مشاعر سلبية (ليس بيني وبين منيف أي موقف أو تصفية حسابات ولا أحمّله أي مسؤولية كونه روائياً اشتغل على العمل بطريقته). أما مبررات إثارة القضية في هذا التوقيت فاختصرها في جُملة (وضعي الصحي صعب ومن حق أهلي وورثتي وأصدقائي أن يعرفوا سيرتي ويقرأوها). رافضاً (إضفاء أي صبغة أخرى على القضية) لأنه يرى ذلك (سلوكاً غير مفيد). وكذلك وعد بكتابة سيرته واستعادة كل ما أغفله عبدالرحمن منيف. وذلك استناداً إلى الأشرطة التي وعدت أرملة منيف بإرسالها له عبر صديق مشترك.
وجود الأشرطة حقيقة مؤكدة، مع اختلاف على عددها ومدتها ومضامينها. حيث اعتبر فالح عبدالجبار نفسه (مذنباً ويشعر بتأنيب ضمير كونه سلم التسجيلات لمنيف). وتمنى لو أن (منيف وظف شيمته في الاشارة لاسم الرجل أو التسجيلات). وذلك في تصريح لجريدة عكاظ في الرابع من نيسان/أبريل. وكان قد اتهم منيف في عكاظ أيضاً يوم الثاني من نيسان/أبريل بفقر المخيلة (فالقصص أجمل وأغنى مما ورد في الرواية). الأمر الذي يعكس اضطراب رؤيته إزاء القضية. فهو تارة يتهمه صراحة بالاستيلاء على الأشرطة ورفض إعادتها. وتفريغها في قالب روائي. ليعود وينفي عنه تهمة السرقة. وأن ما دفعه لتحريك القضية هو مرض صاحبها. وكل ذلك يعود إلى كونه الوسيط الذي استجوب حيدر الشيخ علي وسلم الأشرطة لعبدالرحمن منيف. وهو هنا يعادل شخصية الراوي (عادل الخالدي) في الرواية. وهو أمر لا تنفيه سعاد قوادري أرملة عبدالرحمن منيف التي أكدت وجودها ولكن ليس بالصورة التي وصفها فالح عبدالجبار. فعددها أقل ومسجلة 
بصورة مشوشة، وحضور المستجوب فيها على درجة من البهوت. كما أكدت فيان بنت حيدر الشيخ علي في صفحتها على الفيس بوك على وجود الأشرطة بحوزة عبدالرحمن منيف.
مروية فالح عبدالجبار على درجة من الارتباك. فهو يكيل الاتهامات لعبدالرحمن منيف ويتهمه بالسطو على سيرة المناضل حيدر الشيخ علي. لكنه لا يفسر عدد الصفحات التي تجاوزت الخمسمائة التي تفوق الجزء الصغير الذي قال بكونه فصلاً من عذابات صاحبه. كذلك يؤكد على النقل الحرفي الذي اعتمده منيف بمقتضى آلية تفريغ الأشرطة بالنظر إلى افتقاره للمخيلة. ثم يعود ليؤكد على أن التسجيلات أجمل وأغنى مما أدّاه منيف سردياً. وكأنه يريد التشويش على الرواية ومبدعها وليس البحث عن الحقيقة. وكذلك يتعمد تغييب الدليل بالحديث المغلوط عن الأشرطة وكأنه يراهن على عدم وجود الأشرطة كدليل مع تقادم الزمن. وهو أمر سينجلي في الأيام المقبلة. وفيما سيكتبه حيدر الشيخ علي تحديداً من تفاصيل تفارق الرواية أو تنطبق عليها. والأهم أنه في كل مقالاته وحواراته المتعلقة بالقضية يشدد على وقائع سجن إيفين في إيران، ويتناسى مرادات عبدالرحمن منيف في مساءلة قمع الحريات في العالم العربي التي اختصرها في متوالية من المعتقلات 
الحقيقية أو محوّرة الأسماء مثل (العبيد، العفير، القليعة). فسجن (العبيد) مثلاً يحضر بالاسم وبكل معالم الطبوغرافية. ومن خلال الفضاء المنزرع فيه، وكذلك المحقق (الشهيري) بما يختزنه هذا الاسم المعدّل من إشارات. 
لا يبدو فالح عبدالجبار معنياً بمضمون روية (الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى) ولا بظلالها الفكروية أو بمقاصدها وخطابيها: المعلن والمضمر. فهو منشغل فقط بإدانة الوحشية الإيرانية، وتسقيط منيف كإنسان وكروائي. ولذلك لم يكلف نفسه. عناء وشرف التعرّف على شخصيات: هلال معتوق، وعوض وابن رشود ومحيسن وسامي أيوب وزكي وغيرهم. وربما لم ينتبه إلى مقاصد منيف التي تتجاوز التسجيل والتوثيق والشخصنة إلى أفق تخليق رمزية نضالية. ولذلك لم 
يستمع لصوته الصادح بالمبادئ (لا تعرف كم نقدر تضحياتك وصمودك يا رفيق. وهذا موضع اعتزازنا. وأنا، منذ سنوات طويلة، وعلى البعد أسمع باسمك يتردد كواحد من الرفاق الذين تحدوا الجلادين والسجون وصمدوا. ولأنك تحتل في قلوبنا هذه المنزلة، نريدك أن تبقى رمزاً ونريد أيضاً أن يستمر هذا الرمز. ليس عنواناً لمرحلة سابقة فقط، وإنما عنوان للمرحلة الحالية وللمستقبل أيضاً).
فالح عبدالجبار باحث له مكانته وسمعته. ويفترض أن يقرأ الرواية من داخلها ويطابقها بوعي وأمانة على ما سمعه من حيدر الشيخ علي. وأن يختبره على صورة البطل طالع العريفي. لا أن يطلق العناوين الإعلامية الاستفزازية. كما يتحتم عليه أن يحمي فرضيته بالإبقاء عليها داخل إطارها الثقافي، لا أن يبدّدها في هوامش اللغو السياسي. فهي رواية لا تتحدث فقط عن الضحايا المجلودين بل عن الضحايا من الجلادين. بمعنى أنها رواية إنسان. وليست رواية شخص يستعيد ما ناله من عذاب في أحد السجون. إنها رواية تتحدث عن (الاستبداد الشرقي) كما وصفها منيف بمنتهى الوضوح والصراحة. وبقدر ما استعان منيف بسير المعذبين استأنس بصُحبة لوقيانوس، الذي كانت الحرية أهم أصدقائه. إذن فهي ليست رواية المشهد الواحد. بل رواية الحياة كاملة مروية ومرئية بعدسة إنسان يحمل مشعل الحرية. ويهتدي فيها ساردها براية الديمقراطية التي يراها في سياق الرواية واحدة من ثالوث ثوابته إلى جانب النقد الذاتي للتجربة، والتأكيد على النزاهة والاستقامة وضد التلفيق والافتراء على الآخرين من أجل تصفيتهم.
ربما استخدم منيف سيرة حيدر الشيخ علي كقالب تجسيمي لشخصية طالع العريفي. ولكن ذلك لا يعني استنساخه. فالرواية تقول أكثر بكثير مما تم تداوله إعلامياً. وبالتأكيد هناك قالب واقعي لشخصية مصطفى سعيد في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) وقالب مرجعي لشخصية وليد مسعود في رواية ( البحث عن وليد مسعود) تماماً كما نوّع حنا مينة على شخصية والده في عدد من رواياته وهكذا. ولكن ذلك لا يحيل إلى وقائع صرفة في السرد وإعادة تشكيل المشاهد بآلية استنساخية لأصل المروية. 
ورواية عبدالرحمن منيف هذه بالتحديد كانت محل تخـــــرصات تأويلية منذ صدورها حول مرجعية أبطالها.
حيث يدور همس وإشاعات لمناضلين قضوا جزءاً من حياتهم في السجون. ولكن يصعب اعتمادها من دون دليل. ولذلك لن يكون من المستغرب ولا المفاجئ ظهور أسماء أسهمت في تزويد منيف بجزء من تجاربها مع السجانين.
إن فضاء السجن في رواية (الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى) ليس فضاءً ذهنياً. ولا هو بالمستنسخ من نقولات شفاهية. وبالتالي فهو يتجاوز كونه مكاناً بأبعاد ومقاييس مادية ومواضعات طبوغرافية إلى كونه فضاءً ينهض على أنقاض عالم طالع العريفي الخارجي. حيث يحاول من خلال اللغة الاحتكاك بالعالم الخارجي وتقويض كل مقومات الانفصال والانقطاع عن العالم الذي يحتمه فضاء السجن. بمعنى أن منيف أراد أن يحطم كل فكرة لشل قدرة الانسان وعزله.
وهو مقصد يبدو على درجة من الوضوح في سياق الرواية وخطابها. خصوصاً في محاولاته لتصعيد البعد التراجيدي والحد من تمدّده في آن. وذلك بالتأكيد على أن فضاء الزنزانة ليس محلاً ثابتاً بل مجرد إقامة مؤقتة. 
وهذا هو سر الحوارات المسرحية والمقاطع اللغوية المفعمة بالأمل والتحدي واليقين، التي حاول فالح عبدالجبار ضغطها في مشاهد التعذيب النفسي والجسدي وأرادها منيف منصة للتبشير بالحرية التي تشكل جوهر إبداعه.

كاتب سعودي

قد يعجبك ايضا