التفاوت الكولونيالي وخشونة الكيان العراقي التي أهدرته
المبضع الكولونيالي تذكارُه كالمصيدة. «جوهرة» صنيع المستعمر في اختطاط وتقطيع الخرائط حاضر في الحالتين المتعاكستين: بتوهم امكان التعامل، «في لحظة ما»، ومنها فصاعداً، مع الحدود الترابية للمستعمرات السابقة وشبه المستعمرات، كما لو كانت حدودا محض وطنية لكيانات تحقق استقلالها «كما لو لم تكن كن قبل مستعمرة»، وقد باتت في حلّ من أي مساءلة للماضي الاستعماري الذي اقتضى رسمها. وبالتعسف، في المقلب الآخر، بطلب نفض هذه الحدود من أساسها، واقتضاء رميها في البحر ما دام رسمها غزاة قادمون من وراء البحار. الأدهى، ان التاريخ المعاصر للعالم الثالث، وخصوصا في المنطقة العربية، يعج بظواهر متنقلة خبط عشواء بين هاتين الحالتين.
أوّل المغفل هنا ان الكيانات الوطنية المولّدة كولونياليا لم تكن جميعها على نفس درجة الاصطناع ونفوره حين ولادتها، ولا هي سلكت الدرب نفسه وحققت النتائج ذاتها لجهة عملية تشكيل سردية جامعة لها حظ من الحيوية والمتانة، وللعقد الاجتماعي بين ابنائها قدر من الحيثية وتدبير من الصيانة متجدد في كل جيل.
فمسار التقسيم الاداري العثماني ليس معدوم الأثر عند النظر الى أمر هذه الكيانات، خصوصا في القرن التاسع عشر، في المرحلة التي تقلصت فيها مساحة السلطنة، انما اشتدت الرابطة المركزية الدولتية التحديثية بين ولاياتها المتبقية، بالتوازي مع استقلال ولاياتها البلقانية تباعا، وخضوع ولاياتها في الشمال الافريقي للاستعمارات الاوروبية، تباعا ايضا. الأفكار الكيانية المصرية والسورية واللبنانية والعراقية وسواها كانت غير متبلورة بنفس الشكل الذي اتخذته في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى، لكنها كانت حاضرة، ومتداخلة، مع مشاريع وحسابات تبدو لنا اليوم معاكسة لها، في نهايات الزمن العثماني.
ومع الحقبة الاستعمارية، التي جاءت بالنسبة الى الولايات العربية العثمانية السابقة، في نهايات الحقبة العالمية للاستعمار، كانت هناك ادوار سواء للنخب الاعيانية التقليدية، او للاهالي، او في محطات بعينها للجماهير، ادوار مؤثرة، بالسلب والايجاب، والفعل ورد الفعل، على عملية انبثاق الخارطة الاستعمارية لكياناتنا الوطنية، بالتدريج. لا يقلل من هذا ان الاعيان هنا، والاهالي هناك، لم يتعرفوا «بالسرعة اللازمة»، على كيانات كان لهم دور غير قليل في رسمها، او هم تعرفوا على ذلك بسرعات متباينة فيما بينهم، على ما تخبره لنا حالتا لبنان والعراق.
لبنان والعراق.. مقارنة بكيان «المتحد» السوري، كانا اكثر صلابة كيانية، رغم الاختلاف النوعي بين الحالتين. العراق الذي ظل موال انضمام حلب، من بعد ضم الموصل، اليه، حاضرا في السياسة السورية، حتى الخمسينيات. ولبنان، الذي تلاشت المطالبة داخله بالانضمام الى سوريا اواخر الثلاثينيات، لتتجدد بشكل «نفسي» في مرحلة ما بعد استقلال البلدين عن فرنسا، ونشوب «المقاطعة الجمركية» بينهما.
صلابة «الكيانية اللبنانية»، كانت، للمفارقة، من نوع مائع. وصلابة «الكيانية العراقية»، كانت من نوع خشن فوق اللزوم. «الميوعة» الكيانية اللبنانية لم يلخصها افضل من الشيخ بيار الجميل، في صيغة «قوة لبنان في ضعفه». والكيانية العراقية، المتصالحة مع تاريخ الرافدين السومري والكلدو اشوري حتى في ظل «البعث»، والمتكئة على الحقبة الكلاسيكية لبغداد العباسيين من جهة اخرى، بدت غير مكتفية بهاتين السرديتين، ومحتاجة لجرعات زائدة تفجيرية للكيان بالنتيجة، من القمع الدامي للاشوريين، الى «الفرهود» ضد اليهود، الى المجازر المتبادلة بين الشيوعيين والقوميين العرب، والى حد كبير بين الاكراد والشيعة والعرب السنة من خلالهما، في فترة الجمهورية، الى سحب البعث الجنسية من ذوي الاصول المعتبرة فارسية بحجة مكافحة الشعوبية، الى حلبجة والانفال، الى التغلبية المذهبية الفئوية المعكوسة مع عودة الميليشيات من ايران، في مرحلة الاحتلال الامريكي، والانتحارية الكابوسية. كما لو انّ ايجاد جذور سردية موغلة في العراقة والقدم للكيان، وعمق كلاسيكي عباسي له، لا يكفي، على مستوى السرديات، للانتقال بعد ذلك الى ما هو اكثر مباشرة في عملية تشكيل العقدين الاجتماعي والوطني. فحضرت مكافحة الشعوبية مع البعث، ثم حضرت المظلومية مع فترة حزب الدعوة، دعوة التأليف بين التدخلين الأمريكي والعراقي.
وأخذت هذه المظلومية الثأرية والتغلبية تضرب يمنة ويسىرة. سحبت من الكيان دعامته العباسية، وبهتت معها دعامته الموغلة في التاريخ القديم، استهانت بالمنطلقات الديمقراطية والفدرالية التي اندرجت في دستور ما بعد البعث، فمسختهما الى استبعادية للسنة العرب، اولا بحجة اجتثاث البعث وثانيا بمعية مكافحة الارهاب، وتوعدية ناقمة على الأكراد في الشمال، ولا تفهم لماذا لا يواليها الاكراد ضد العرب السنة، والعرب السنة ضد الاكراد، رغم ان كل سطوع للتغلبية الفئوية القابضة على حكم بغداد، تغلبية حزب الدعوة والميليشيات الحشدية، لم يشعر الاكراد والعرب السنة لا بمشترك مذهبي ولا بمشترك نفعي بينهما، ذلك ان التخريب الذي حققه البعث على هذا الصعيد بقي جد عميق.
رغم عدم اكتفائه بما كان له من دعائم قوية، منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، لم ينظر العراق الى نفسه ككيان ناقص وانما «كبروسيا عربية»، كاقليم قاعدة تطمح للريادة التوحيدية العربية من دون ان تلغي نفسها ككيان. بخلاف نظرة الكيان السوري الى نفسه لعقود، ككيان ناقص، حتى وهو يسعى للهيمنة على الشعوب الشامية الاخرى، في ظل حافظ الاسد. لكن الكيان العراقي، مع هذا، نموذج، لاستهلاك موارد الاستدامة، في السردية وارادة العيش معا، الى حد النضوب.
الكيانية الوطنية العراقية التي كانت ممكنة حتى في ظل البعث، رغم كل ما لحق في ظله من ضيم واضطهاد، وعلى ما ظهر في الحرب مع ايران، لم تعد كذلك في ظل حزب الدعوة. ليست اربيل من تسلب هذه الكيانية اليوم حقها في الوجود. حق الكيان الوطني العراقي في الوجود يسلبه كل الاهدار لفرص اعادة البناء والتصالح وتداول السلطة وتوزع الموارد وتضافر التعدديات، بعد سقوط صدام، والمسؤوليات هنا لا تحصر او تختزل، لكن التغلبية المذهبية الانتقامية، تتربع بوضوح فوق عرش التخريب الحاصل هذا، لكيان كان من بين الاكثر حيثية اول ما اختطت خارطته الكولونيالية، وهدر حيثيته بالافراط في «المخاشنة».
وما الممانعة غير المخاشنة؟ انهما في مقدمة ابن خلدون يترادفان كمسمى واحد.
٭ كاتب لبناني
