قصيدة «كريستال وضوء»: تشكيل الخامة الريفية داخل تقنية المدينة

محمد خضير سلطان

منذ أن افتتح الشاعر العراقي الغنائي ذياب كزار «أبو سرحان» قصيدته «كريستال وضوء»، اختار طريقة سرد، بالقطع ليست عفوية في أن يضع تقنية الشخص الأول «الأنا» بوصفه ضميرا سرديا مناسبا، مقابل تناوب الشخص الثالث، بوصفه إيقاعا لغويا متسقا مع فكرة عميقة، ولكن معبرا عنها ببساطة متناهية.
يستمر الشاعر في افتتاح قصيدته مع تنويع آخر للوصف والاستعارة حتى الاختتام .. مرة مرَني الطيف.. «صوت أول»… خضّر بروحي قمر، سولف ابهيده.. «صوت ثالث». ثم يكسر هذا التناوب بقطع الاستعارة «مهرة مزلفة، نسمة على جنح» واستخدام الفعل مثل.. ذب رجفته وغفه..
ويشرع عبر هذه التقنية، مرة واحدة في جعل البناء قصصيا بارعا على النحو المختزل بشدة، خصوصا فن القصة القصيرة، لكي يوحي بما يحدد شكلا له تفرد نوعي خاص جدا، ومخاض تجربة شعرية شائكة، توجت في مرحلة العراق السبعيني من القرن العشرين، كما يمنح معطى القصيدة الغنائية الفني على النحو الذي لا يمثل البيئة الأدبية والحياتية العادية لدى جميع مجتمعات العالم، أبدا، إنما كان هذا الاختزال المر في العراق حسب، كلما يزداد مرارة، زادت تركيبته اللغوية سبكا وتعبيرا، وهو منحى ليس لدى الشاعر ذياب كزار حسب، وإنما لبعض مجايليه الذين يكتبون الشعر على طرازه، مثل قوة القص والتشخيص لدى مظفر النواب، إنه أسلوب شعري حالم، يتمثل فكرة تحول سياسية واجتماعية في السبعينيات، ويستبق حلولها في نشدان أدبي وبيئة داخلية على نحو عميق. والشاعران مظفر النواب وذياب كزار، يمثلان ذهنية الشعر الفصيح، ولكن بطاقة العاطفة في اللغة الشعبية أو المحكية، أي أن الاستعارة والوصف اللذين يستخدمانها في شعرهما، تمثل تقنية فنية بوسع الفصحى التعبير عنها ببراعة، فيما لا تستطيع قوالب اللهجة أو اللغة المحلية الإتيان بها، من جانب ثان ليس بوسع المفردة الفصحى التعبير عن شحنة العاطفة كما في المفردة المحكية، خصوصا ذات المنشأ الريفي.
في السياق ذاته، فإن ذهنية الشعر الفصيح لدى الشاعرين، تعني خبرات المدينة والانتقاء من الريف على العكس من شعراء آخرين، يعبرون عن التناشز الإبداعي بين نمطين من الثقافة.
وقبل أن نناقش موضوع التناشز لتلك الظاهرة الأدبية، لابد ان نستكمل آليات السرد في هذه القصيدة بواسطة الانتقال من فعل البناء القصصي المحكم والضميرين السرديين الى الوصف، ليستخدم الشاعر مفردة «كانت» ويكررها في
كانت الدنيا كرستال وشمس،
كانت الخصلة ذهب،
وهكذا جاء الشكل على النحو التالي: ضمير الأنا.. الهو كطريقة سرد، و»كانت» للوصف، فيما أضحت عناصر المكان والزمان مثل البلور والطيف، وفي ما بينهما مشروع إنساني غير واضح الملامح، يأتي أو لا يأتي، لكنه ممكن كفكرة وواقع كقصيدة، لذا فإن مفردة الوصف «كانت» تعني زمن النص أكثر من الخارج، وتترابط مع القصة مثل تشبيه أكثر من معناها اللغوي كماض، وهي في الخطاب تعني الانتظار لمباهج لم تتحقق بعد أكثر من الماضي مثل أفعال الماضي التي تفيد المضارعة والاستمرار خارج النص، أي أن الدنيا لو يحل هذا الطيف أو يتحقق، ستكون شمسا حقيقية وناسها مثل مشروع مستقبلي حالم لا يدري شعراؤنا مدى زيفه، وكانوا يكرسون حياتهم من أجله إلا أن الخيبة، غدت دافعا لاستمرار التلقي مثل نوستالوجيا حلم محبط .
في قصيدة «كريستال» يتدفق فيه فعل القص مثل تعقب أثر خفي من فضاءات بعيدة، يستجليه حالما يكشف عن فاعله ثم يواريه حالما يدل على استعارته:
نسمة على جنح
مهرة مزلفة
وفي هذا التناوب بين الصوت الأول والثالث، يستحضر العنصر السردي الآخر لشخصيتين قصصيتين، الأولى طيفية ترتدي ملامح استعارية من الطبيعة البكر والثانية بلورية مدينية، مركبة، تشف عن نزوع طامح معبر بإلوان هي مزيج من الخضرة والماء وضوء الشمس، فضلا عن أن هذا المزيج متضمن العالم الداخلي للشخصيتين وطبيعتهما الفنية الخالصة، داخل وظيفة النص وما يساور انفعالهما من أحاسيس عميقة، رمزية باتجاهات خبرات عديدة حتى لو كانت أيروسية وأنثوية، وربما أدى هذا النسيج الرمزي والنصي الرقيق إلى أن يختار الملحن محسن فرحان صوت المطربة العذب أمل خضير لأداء القصيدة، إلا أن محتوى القصيدة في أكثر من اتجاه وتحليل، يتخطى شكلها اللغوي والقصصي وبناءهما الفني إلى طبيعة التجربة العراقية كلها وخصوصيتها الثقافية والسياسية آنذاك، تجربة الهجرات بين الريف والمدينة، بين الجدب وبقايا نماء، بين ساقية جافة ورصيف متآكل.
لو تناولنا باختصار فرضية علي الوردي في التناشز الاجتماعي، تمكنا من ملاحظة وبحث في أن المدينة التي تحتفظ بسكونها منذ العهد العثماني وحتى العباسي، استطاعت عبر مؤسساتها المعرفية والمجتمعية أن تدخل العصر الحديث، وتستمر في اتجاهات أدبية وثقافية، في الوقت الذي كان الريف يمتلك فضاءه الثقافي والأدبي المنفصل، إلا أن الهجرات الريفية نحو المدينة، وعدم ارتقاء المدن، جعل التداخل المهجن بين ثقافتين، يعمل داخل قناتين من الإنتاج الثقافي والإبداعي، لتسوق من خلاله شركات إنكليزية وألمانية ولبنانية للتسجيلات الغنائية خامات غنائية ريفية خالصة إلى أهل المدن مثل داخل حسن وحضيري أبو عزيز، وسرعان ما اندمجت تلك الخامات بمتغيرات المدن لتظهر في أصوات أخرى بنسخة محسنة مثل، حسين نعمة وياس خضر مرفقة بتحولات سياسية وتنموية على أرض الواقع.
نجد هنا أن قصيدة «كريستال وضوء» هي إحدى نتائج اندماج الخامة الريفية الأصل بوصفها عودة إلى الطبيعة مع تقنية المدينة كونها ارتقاء صناعيا منتجا غير أن تناشز الوقائع أدى إلى خيبة مشروع الحلم المتقن بخراب الحالم والمثخن بجراح الحالمين.

٭ كاتب عراقي

قد يعجبك ايضا