الإيراني يد الله رويايي: من تصوّر الشكل إلى شاعرية التطرّف
عثمان بوطسان
ولد الشاعر يد الله رويايي في مايو/أيار 1932، في دامغان (إيران)، وقد عاش نصف حياته في عاصمة الأنوار والشعر باريس. حصل الشاعر على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة طهران. ثم عمل في التلفزيون الإيراني، وكان قريبا من حزب توده في شبابه. يعتبر أفضل ممثل للاتجاه «الشكلي» للشعر الإيراني المعاصر، لأنه يستوحي شعره من الرمزية الفرنسية ويطلق العنان للشيخوخة. وقد نشر العديد من الكتب الشعرية في كل من إيران وفرنسا، خاصة ديوان «والموت كان إذن شيئا آخر».
أمضى طفولته في الصحراء التي لا حصر لها، حيث أصبحت تشكل عالمه النفسي المراهق، وتعد جزءا من شاعرية كتاباته، لأنها تضفي نوعا تعبيريا قويا. فالطبيعة تتحول إلى إطار للقصيدة النفسية، التي تتمحور أساسا حول مجموعة من المفاهيم أهمها: الشمس، العطش، الأراضي القاحلة، البئر الجاف، الرياح، الرمال، القلاع المهجورة، المساجد، الثعابين والملح. كل هذه المفاهيم لها دلالات قوية لأنها تعكس عالم الشاعر وتشكل دافعا قويا لاسترجاع ذكريات طفولته البعيدة، التي عاشها في الصحراء القاحلة؛ حيث لا سلطة تعلو على سلطة الجوع والعطش والثعابين. وهكذا سينتقل الشاعر من حياة الصحراء إلى حياة المنفى، وسيكون لهذا التحول دافع قوي لمواصلة رحلة الكتابة واستحضار ذكريات الطفولة في جل نصوصه. فالحياة في نورماندي، ستحتم عليه الغوص مجددا في الماضي لالتقاط بعض الصور العابرة والشعور بالأسى والحنين، فقد كتب الشاعر واصفا إحساسه في حياة المنفى: «هنا في نورماندي، أعتقد أو ربما أنا لست مقتنعا بأنني «هنا» و«الآن» بالفعل؛ على الرغم من ارتباطي بكل هذه الطبيعة الخضراء لسنوات، إلا أنني لا أؤمن بهذا الامتداد الأخضر من وقت لآخر.
في البداية اعتقدت أنني قد عشت طفولة محبطة ومغتصبة، ولكن الآن، مع مرور الوقت، هذه الطفولة الصحراوية، هذه الآفاق التي لا نهاية لها، هذه الأشجار تصبح بالنسبة لي جفافا بدون الحنين. أحن إلى كل شيء هربت منه».
الجيل المتعب
ينتمي رويايي إلى «الجيل المتعب»؛ جيل تميز بانقلاب 1953 الذي أثرت عواقبه على التجانس تقريبا، وعلى عقلية شعراء عصر الحداثة، ولكن إذا كانت أحداث حياته تقربه من جيله على المستوى السياسي والاجتماعي، فعلى المستوى الفني كان إلى حد كبير بعيدا عن الاتجاه السائد في العصر الذي سيطر عليه الشعراء المتشددين، الذين وجدوا في الشعر الوسيلة الأكثر فعالية للنضالات السياسية.
عندما نشر رويايي ديوانه الأول في عام 1961، تحت عنوان «على الطرق الفارغة»، فقد الشاعر الشيوعي حماسه للأنشطة السياسية. ليتحول الشعر إلى أوليات أنشطته الفكرية، لدرجة أنه أصبح «هدف» حياته. «الشعر»، يقول رويايي «سرعان ما أصبح ضرورة». أخبرني الشعر أنه عليّ مواصلة المهمة. من الآن فصاعدا، لم يعد الشعر ملجأ، ولكن هدفي، موضوع حياتي، غرض جهودي؛ والنوايا الأخرى، إذا وُجدت، ستتقارب مع هذا الهدف».
لقد جمع رويايي في ديوانه «الطرقات الفارغة» القصائد التي كتبها بين عامي 1953 و1961. وعلى الرغم من أنه يمكن للقارئ أن يجد تشابها بين قصائده والقصائد التي كتبها الشعراء الذين يشتركون معه في القيم السياسية والاجتماعية ذاتها، لكن يبقى لهذه المجموعة الشعرية طابعها الخاص وتترجم قدرة الشاعر على معرفة الشعر وجهوده في هذا المجال. ينتمي ديوان «الطرقات الفارغة» إلى الحقبة المعاصرة التي تميزت بتجريب تقنيات جديدة في الكتابة، حيث يعكس إلمام الشاعر بتقنية القياس وسعيه لاستخدام أشكال مختلفة من أجل اكتشاف شكل المكونات في حياة الكلمات. وكان رويايي دائما يفكر في الضوء والصوت والحركة والوقت والفضاء واللون، لإيجاد وضعها في الشعر. وبالتالي أصبح الاهتمام بالشكل مركز اهتمام الشاعر، الذي كان يعتبر الشعر ليس فقط تدفق الحالات الداخلية للفرد الموهوب ذي الحساسية المفرطة، ولكن النشاط الواعي الذي يهدف إلى خلق أشكال جمالية في المجال اللغوي بشكل صحيح.
نشر رويايي مجموعته الشعرية الثانية عام 1967، معنونا إياها بـ«قصائد البحر». تتميز «قصائد البحر» بأسلوبها الخاص واهتمام الشاعر بالشكل. يواجه الشاعر في هذه المجموعة، البحر ليحصل على كل ما يمكن لهذا المدى اللامحدود أن يقدم خيالا وإخلاصا. يعطي البحث اللغوي لرويايي قصائد هذه المجموعة شكلا جديدا. وستُأسس هذه المجموعة الشعرية لفلسفة شعرية تقوم أساسا، على اعتبار القصيدة قطعة عمل واحدة، والبحث عن الاقتصاد في الكلمات، بالإضافة إلى التركيز على العلاقات بين العناصر اللغوية في بناء القصيدة، لتشكل بذلك أساس الشكل المبحوث عنه. وهكذا، فإن رويايي ينظر إلى نفسه على أنه شاعر شكلي. وقد كتب إسماعيل نوريالا في هذا الصدد قائلا: «مع قصائده البحرية، أسس رويايي المدرسة الشكلية. فهو يبرهن من خلال قصائده، على إتقان وقوة لم يستطع أحد التمتع بها حتى الآن؛ لا يمكن لأحد تقديم النموذج أفضل منه في شعر النيماي (نسبة إلى نيما).
بعد نشر رويايي لمجموعته الشعرية الثالثة، اعتقد النقاد أنه وصل إلى ذروة إبداعه، ولم يكن لديه شيء آخر لتقديمه. لكن ديوان «الأحزان» أظهر أن الشاعر هو فقط في بداية مشروعه. إذا كانت القصائد البحرية قد أسحرت جيل رويايي والشعراء الشباب في ذلك الوقت عن طريق رسم الأحزان بلغة شعرية مميزة، فقصائد ديوان «الأحزان» مهدت لفكر شعري جديد، وسوف تبشر بالحركة الشعرية التي أطلق عليها بالفرنسية «Espacementalisme» جمعت هذه الحركة حوله العديد من الشعراء الشباب والفنانين الطليعيين، الذين كانوا يبحثون عن طرق جديدة للشعر الفارسي. فديوان «الأحزان» هو كتاب العودة: العودة إلى الصحراء. لكن هذه المرة، يضع الشاعر ذكرياته بين قوسين لوصف الصحراء كما تراها اللغة. الشاعر الذي «بعد تجربة الفشل» وصل إلى «درجة من العري والنكد والحياد والتواضع»، يجد نفسه «في مواجهة الأراضي الصحراوية» وهذه آفاق بعد آفاق.
فلسفة الشعر
هكذا سيتواصل إشعاع شعر يد الله رويايي، بعد نشره لمجموعة شعرية رابعة موسومة بعنوان «من أنا أحبك» في عام 1968. والقصائد في هذه المجموعة، كما يقول رويايي نفسه، «تنتمي إلى عالم الحب والجسد»، لكنها مع ذلك ليست بعيدة عن موضوع مجموعتيه السابقتين. نهج رويايي في هذه القصائد فلسفة شعرية وتقنيات مماثلة لتلك التي اعتمدها في ديوان « قصائد البحر» و«الأحزان»؛ فالجسد دائما شبيه بالبحر والصحراء، ضخم، قديم وغني. يعتمد الشاعر في هذا النوع من الشعر، على حركة الجسم كتشبيه للبحر، خالقا بذلك شكلا يختلف عن السابق والمقبل من أشعاره. قوة الجسم في إنشاء النماذج هو اكتشاف في حد ذاته. وفقا للشاعر نفسه، «في الباليه، يأخذ الجسم أشكالا لا محدودة. وحسب رويايي دائما، يجب على الشاعر اكتشاف هذه الأشكال التي يعتبرها ثروة. اللغة تشبه الجسد، اللغة يمكن أن تؤدي بدورها إلى خلق أشكال مختلفة من الحركات المختلفة. في قصائد «من أنا أحبك»، يقوم رويايي بتحريك عناصر الجملة. على سبيل المثال، فإنه يستبدل الاسم مع الفعل لإدخال الحركة في اتجاه الاسم، الذي يسمح للاسم بالهروب من الجمود. وهكذا تُمنح الجملة بحركة توليد تدل على الفضاء.
سيتوقف الشاعر عن النشر لمدة 12 سنة، ليعود من جديد عبر مجموعة شعرية جديدة وضع لها اسم «الآيات الشفهية»، التي نشرتها لأول مرة الجمعية الفارسية عام 1990 في باريس، ثم في عام 1992 في شيراز، لتضع حدا لهذا الصمت الذي انعزل فيه الشاعر. اعتبر النقاد هذا الكتاب إنجازا لأسلوبه الشعري الأكثر تطرفا والذي بدأ في نهاية الستينيات، وكانت «الآيات الشفهية» تتويجا لنقطة تحول في مجرى رويايي. هذا الحدث، تم وصفه كنقطة تحول ظاهرية في شاعريته، يجعله ينفرد بين شعراء الستينيات. فالآيات الشفهية هي قصائد الفكر، والفكر في اللغة ومن خلالها. هذه ليست قصائد للقراءة في العلن ولكن شظايا للتأمل في العزلة. لهذا السبب، كما يقول رويايي، «قراء هذه القصائد هم أولئك الذين لم يعد الشعر لهم زخرفة فكرية، بل شكلا من أشكال التأمل قادرا على التشكيك في الفكر الإنساني». إن جدية عمل رويايي في عرض الشعر كشكل من أشكال السلوك البشري يظهر بوضوح في هذه الكلمات المأخوذة من رسالة إلى سينا رويايي، حيث يقدم الشاعر سيرة ذاتية لنفسه: «يقول أدورنو إنه بعد أوشفيتز، لم يعد للشعر ما يبرره. نعم، الشعر كما يقول أدورنو ليس له مبرر. لقد مرّ اثني عشر عاما على أن أفهم أننا (شعوب العالم) لم يكن لدينا شعر: لو كان لدينا شعر، لما كان لنا معسكر أوشفيتز. «
في عام 1998، سينشر رويايي ديوانا جديدا تحت عنوان «قبر من سبعين حجرا»، وهي المجموعة الشعرية التي اشتغل عليها الشاعر لمدة تزيد عن الخمسة عشر عاما. يقع الموت في قلب هذا الكتاب، ليس كموضوع تجب معالجته، ولكن كدليل يفلت من كل التكهنات الفلسفية، وهو أمر لا يمكن الاستغناء عنه. تفتح المقبرة بحجارتها وموتها، للشاعر مساحة يمكن التفكير فيها، فضاء الموت. وقد كتب رويايي في مقدمة هذه المجموعة: «لقد ساعدتني هذه القصائد على البقاء على قيد الحياة». يتحول الموت في هذا الديوان الشعري إلى شيء أشبه بالحياة اليومية التي تجعل الشاعر يفرغ كل ما بداخله عن طريق الشعر.
الكلمة المنعزلة
لقد تابع رويايي رحلته الشعرية وقام بإصدار ديوان سابع موسوم بـ«التوقيعات». تتألف هذه المجموعة الشعرية من قصائد مختارة مترجمة من الفارسية إلى الفرنسية بقلم كريستوف بالا. في عام 2002، تم نشر طبعة ثانية من دار النشر كرعان في طهران. أضافت هذه النسخة ثنائية اللغة، توقيعات أخرى إلى الإصدارات السابقة وتم تغيير عنوان الكتاب إلى «الماضي الذي أوقعه». وقد ظهرت بجانب اسم كريستوف بالا، أسماء أخرى لمترجمين بارزين كبارهام شاهرجيردي وعاطف طهعي. ستعرف هذه المجموعة الشعرية نجاحا كبيرا في عام 2007، ويتم نشرها في طبعة ثالثة. ديوان «التوقيعات» هو فضاء للتفكير ويندرج دائما في تصور الشاعر الذي يدعو إلى التفكير والتطرف في بناء قصيدة جديدة قادرة على تحديد مفهوم الإنسان الحديث. فهذا الديوان الشعري يقدم للقارئ مساحة للتفكير والتأمل، فالشاعر يسمح لنفسه بأن يسترشد بحركة اللغة. يقول رويايي عن هذه القصائد: «هذه النصوص هي طبيعتي. هذه النصوص هي الطبيعة. في توقيعي هناك طائر يغني كل صباح بغرابة وأنا بغرابة اعتدت على أن أستيقظ كل صباح لأفتح النافذة. في هذه اللحظة، من الغريب، أريد إقامة علاقة مع الطبيعة، والغريب، لا يقيم علاقة معي. أغلق النافذة ويظل الطير يغني وحيدا بغرابة».
من ثم، ففي عام 2009، أصدر رويايي مجموعته الشعرية الأخيرة واختار لها عنوان «بحثا عن هذه الكلمة المنعزلة». يضم هذا الديوان قصائد كتبها الشاعر ما بين عام 1966 و2008. وهكذا، فقد حاول الشاعر أن يجعل من شعره تطرفا لا يخضع لأي قانون، وقد اعتبر العالم كشيء يتم القبض عليه وينفصل عنه عن بعد، ولا يملك الشاعر كموضوع معروف إلا أن يزيل هذه المسافة بتقنية يسميها تقنية مكانية. وهو الأسلوب الذي خصصه طوال نشاطه الشعري، والذي جعل من الشاعر شخصا «قلقا» في الوجود. إن يد الله رويايي شاعر خسر في التكهنات الفلسفية، لكنه شعر بالحاجة إلى خلق فضاء شعري من خلال التركيز على سلوكه وجعله موضوعا شعريا قادرا على التشكيك في ماهية الإنسان والأشياء. فسلوك الفرد أشبه بالصحراء القاحلة، فضاء شاسع للتفكير والتأمل. بحثا عن الكلمة المنعزلة، هو في الحقيقة بحث عن ذات منعزلة تتغنى أساسا بذكريات الصحراء وأغاني البحار وحجارة القبور.
٭ كاتب وباحث جامعي متخصص في الأدب الأفغاني المعاصر