بدوننا وبدونهم

دلع المفتي

 

في عام 1932 ولد راشد عبدو في قرية صغيرة في اليمن، في عمر السنوات التسع انتقل الى عدن ليعمل قهوجي عند عمه، ثم عمل في محل غسيل وكوي لمدة سنة. انتقل بعدها ليعمل صبي خدمة في المركز الصحي التابع للصليب الأحمر. في سن الثانية عشرة انتقل الصبي الى منزل القنصل الأميركي في عدن ليعمل خادما. سأله القنصل: لماذا تريد أن تعمل عندي، فرد الصبي: أريد أن أعمل لأتعلم وأصبح طبيبا.
عمل الصبي لدى القنصل وسجله في المدرسة صباحا ليعود بعدها ليعمل في البيت مساء. انتقل القنصل لعدة دول خلال عمله ولتعلقه بالصبي، ظل ينقله معه من بلد إلى بلد وهو يتابع دراسته من سنة إلى سنة، إلى أن انتهت فترة عمل القنصل وعاد الى الولايات المتحدة الاميركية مصطحبا معه راشد الذي أنهى دراسته الثانوية آنذاك. من 1948 الى عام 1952 درس راشد الطب وتخرج طبيبا عاما.
راشد عبدو مهاجر يمني قليل الحيلة، لكنه وبدعم من الأصدقاء ومن حكومة اليمن آنذاك ومن الجامعات الأميركية استطاع إكمال تعليمه وحصل على الجنسية الأميركية وأصبح أستاذ جراحة في أكبر الجامعات الأميركية واستشاريا في مستشفيات أميركا الكبرى، وفي عام 2017 اختير ذاك «القهوجي» اليمني رجل العام في أميركا.
على الطرف الآخر من العالم، ولد في الكويت طفلا لأب يعمل عسكريا في وزارة الداخلية الكويتية وجده من قدامى العاملين في شركة النفط الكويتية، كبر الطفل واجتهد وثابر الى ان التحق بكلية الطب في سلوفاكيا (على حسابه الخاص) ودفع أبوه «دم قلبه» ليمكن الشاب من تحقيق حلمه ويتخرج طبيبا متفوقا. عاد الطبيب الخريج إلى الكويت ليعمل في وزارة الصحة، لا كزملائه الأطباء الكويتيين، ولا كما الأطباء الوافدين، بل يعمل بعقد بنظام المكافآت، أجر مقابل عمل. وهكذا ورغم الظلم، استمر الدكتور في عمله بكل تفان ووفاء للأرض التي ولد عليها وأبت أن تسميه باسمها، إلى أن توفاه الله وهو على رأس عمله بعد أن وقف على ثلاث عمليات أثناء الخفارة ودخل غرفته لينال قليلا من الراحة ولم يقم من بعدها.
الدكتور طلال الشمري طبيبا (كويتيا) يشهد له الجميع بحسن خلقه وتفانيه في خدمة المرضى ورعايتهم ووفائه للأرض التي ولد عليها. لو كان ولد في أي بلد آخر لكسب جنسيتها لتنتفع بعلمه البلد. أما طبيبنا الشاب فقد عاش حياته وغادرها من دون هوية، من دون جنسية، من دون نهاية خدمة، من دون تقاعد، ومن دون ضمان اجتماعي.. لا لسبب إلا لكونه «بدون».
«انكسر ظهري يا يبه، أنا أشهد انك ولد صالح»، كلمات سمعها المعزين من والد الفقيد وهو يجهش بالبكاء على حافة قبر ابنه. كسر ظهر الرجل بفقده فلذة كبده بعد أن كسر ظهره بلد رفض أن يعطيه حق المواطنة رغم كل ما فعل.

دلع المفتي

[email protected]
@dalaaalmoufti

قد يعجبك ايضا