عن رحيل جلال أمين… صاحب «ماذا حدث للمصريين؟»

 

وهج 24 : «لم يعد الحراك الاجتماعي في مصر يعتمد في الأساس كما كان في ربع القرن السابق على الهجرة إلى خارج مصر. لم تتوقف الهجرة إلى الخارج بالطبع، ولكن الطلب على العمالة المصرية في الخليج وليبيا لم يستمر في المعدل نفسه، ومن ثم رأينا نوعا جديدا من الهجرة ــ وأكثر بؤسا ــ يتمثل في محاولات غير شرعية لعبور البحر المتوسط إلى شواطئ اليونان وإيطاليا، بما يقترن به من الغرق في الطريق، وأظن أن كثيرا من مظاهر التوتر الاجتماعي في مصر خلال ربع القرن الأخير يرجع إلى زيادة درجة الإحباط الناتج عن الفشل في الحصول على العمل المأمول. وهذا هو بالطبع ما يجعل تدخل الدولة في الاقتصاد أكثر ضرورة منه في أي ظروف أخرى. في مثل هذه الظروف لا يجوز التعلل بمزايا القطاع الخاص بالمقارنة بالقطاع العام، فهذه هي بالضبط الظروف التي كانت، في التجارب التاريخية المختلفة، تستدعي درجة أعلى من تدخل». (جلال أمين. من مقال بعنوان ماذا حدث للحراك الاجتماعي في مصر. جريدة «الأهرام» 25 يونيو/حزيران 2018).
كان التحليل الاجتماعي والثقافي من وجهة نظر اقتصادية هو ما أنجزه الراحل جلال أمين (1935 ــ2018 )، الذي تعد مؤلفاته بمثابة تحليل وتوثيق لتحولات المجتمع المصري والعربي ككل، في شكل يقترب من التحليلات البنيوية للثقافة. وهذه لمحات من الأفكار والموضوعات التي تناولها أمين، سواء في مقالاته أو مؤلفاته، وحتى بعض الحوارات الصحافية.

ما الذي حدث؟

في كتابه «ما الذي حدث للمصريين؟» الصادر عام 1998، يحاول أمين البحث عن سبب الأزمة الأساسية التي يعانيها المجتمع المصري، فيقول «عمارة كبيرة قرر سكان أدوارها العليا النزوح إلى الأدوار السفلى، بينما قرر سكان الأدوار السفلى النزوح إلى الأدوار العليا، وبينما الكل ينتقل بأولاده وأطقم ملابسه ومحتويات منزله، تقابلوا على السلالم، فما الذي سوف يحدث؟ هذا هو ما يجري الآن على المستوى الاجتماعي». يرى أمين أن أهم عوامل هذا الحراك تتلخص في: هجرة كثير من مصريي القرى والأرياف إلى دول الخليج، وتتدفق أموال النفط إلى أهليهم ثم يعودون ليكونوا في طبقة اجتماعية أرقي من التي هاجروا بها، لكنهم مازالوا محتفظين بأساليب حياتهم السابقة، رغم محاولاتهم الظاهرة في تقليد الطبقة الأعلى، فكان لذلك أثر على الحياة الاجتماعية المصرية بشكل عام، كذلك التبعية الاجتماعية للحياة الغربية ـ بخلاف التبعية السياسية ـ فهناك حالة من الانبهار بالحياة الاجتماعية الغربية ومحاولات تمثل أساليبها التي تتصور شرائح اجتماعية معينة في مصر أن مجرد تقليدها للغرب هو تعبير عن التقدم والحداثة. يرى أمين خطورة هذه التبعية وتهديدها للقيم وهوية الشعب المصري، ويرى في مثل هؤلاء التابعين أشبه بأعوان الاستعمار، فهو لا يفرق ما بين الاستعمار وهذه التبعية، وإن اختلفت الوسائل، ثم يأتي إلى الملمح الأهم أو المستقبلي ـ تناوله مرارا في مؤلفات لاحقة ـ ألا وهو ثقافة الاستهلاك، التي أصبحت السمة أو الداء الذي ضرب المجتمع المصري.

العولمة والتنوير الزائف

يرى أمين أن العولمة وإن كانت حتمية، إلا أنها صنعت العديد من الأزمات، أهمها انمحاء الهويات الثقافية، فالتقارب المزعوم لم ينتج التقارب أو السماح لهويات تتجاور، بل أيضا فكرة الهيمنة وفرض الشكل الأوحد. كما أن فكرة التقدم والتخلف لا تخص مجتمعا دون آخر، ولا يقتصر التخلف فقط على العامل الاقتصادي والتكنولوجي، وبذلك يحاول أمين أن يُخرج العرب من هذه السمة أو الوصمة التي اعتنقوها ــ عقدة نفسية ــ وينفي في الوقت ذاته فكرة المؤامرة التي يعيشها العرب، ويرجع ذلك إلى مسألة القوة، فالدول القوية حتما ستفرض وجودها وأفكارها على الدول الأضعف. أما الانبهار بالغرب وما أنتجه ــ التقني منه خاصة ــ فهو أمر ينافي الصحة.

الحاجة إلى يسار جديد

وفي مؤلفه الأخير «تجديد جورج أورويل» الصادر هذا العام، يبحث أمين عن ملامح جديدة لليسار، وأهدافا أخرى غير ما اشتهر بها، فيقول موضحا في أحد حواراته الصحافية أن اليسار القديم كان مشغولا بالتأميم وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهذه المسائل لم تعد هي المشكلة في الوقت الراهن، إلى أن تثبت أن ملكية الدولة قد تكون أسوأ من ملكية الأفراد مثل التجربة السوفييتية التي لم تكن أفضل من التجربة الرأسمالية. اليسار الجديد كان في ذهني أساسا ضرورة أن يقوم بنقد المجتمع الاستهلاكي، وهذه هي المشكلة حاليا. ما يطرحه اليسار القديم لم يعد على الدرجة نفسها من أهمية الالتفات إلى عمليات غسيل المخ المستمرة التي أصبحنا نتعرض لها بشكل مستمر في التلفزيون والإعلانات وترويج السلع، ومن ثم يتركز دور اليسار الجديد على كشف مساوئ المجتمع الاستهلاكي. جورج أورويل تحدث في أعماله عن استبداد الدولة وقهر القويّ للضعيف، أما اليسار الجديد فينبغي أن يطرح فكرة التجديد التي تنظر إلى المجتمع الاستهلاكي باعتباره العدو الأساسي. ففكرة السلطة وطرق قمعها للفرد قد تحوّلت منذ عصر أورويل إلى عصرنا الذي نعيشه الآن، فالقوميات والنظم الشمولية أصبحت شركات عابرة للقارات، وأصبح (الأخ الأكبر) أكثر شبحية من عصر أورويل، لكنه في الوقت نفسه أكثر سيطرة وقسوة، فعملية غسيل الأدمغة أصبحت تتعدى مفهوم الدولة أو النظام، الذي أصبح بدوره مجرد أداة ليس أكثر.

بيبلوغرافيا…

ولد جلال أحمد أمين في القاهرة عام 1935، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1955، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن، وعُين أستاذا للاقتصاد في كلية الحقوق جامعة عين شمس عام 1965، كذلك عمل كأستاذ زائر للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا من 1978 إلى 1979، ثم أستاذا للاقتصاد في الجامعة الأمريكية منذ عام 1979 وحتى رحيله في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2018. نال أمين العديد من الجوائز منها، جائزة مؤسسة العويس الثقافية 2010، جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية 2013، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عام 2017. ومن أشهر مؤلفاته .. «ماذا حدث للمصريين، وصف مصر في نهاية القرن العشرين، عولمة القهر، عصر الجماهير الغفيرة، خرافة التقدم والتخلف، رحيق العمر، ماذا علمتني الحياة، محنة الدنيا والدين في مصر، مصر والمصريون في عهد مبارك، ماذا حدث للثورة المصرية، وتجديد جورج أورويل».

المصدر: القدس العربي

قد يعجبك ايضا