أوجلان في مقهى الكماليين

سوار ملا

 

جالسا في مقهى يخصُّ أتراكا هاجروا إلى ألمانيا منذ ثلاثين سنةٍ، إلى طاولةٍ أسفل صورةٍ مهيبةٍ لمصطفى كمال بالأبيض والأسود، أشربُ شايَّا معتَّقا على الطريقة التركيَّةِ، واقرأُ كتاب «خريطة الطريق» لعبد الله أوجلان.
الشارعُ الفرانكفورتي مكتظٌّ بأناسٍ من أعراق عديدة، وآلياتٍ متينةٍ تصلُ أنحاء المدينة بعضها ببعض. تتناهى إليَّ همهمةٌ مبهمةٌ خفيفةٌ، تبدو خلفية موائمة لحالةٍ سيرياليَّة بعض الشيء: كردي سوري يجلسُ في مقهى تركيّ يديرهُ متطرّفون كماليُّون في مدينةٍ ألمانيَّة كوزموبوليتيّة ويقرأ في كتابِ زعيم حركةٍ سياسيَّة كردية اعتقلته أجهزة الأمن التركيّة وحكمت عليه بالإعدام، قبل أن تخفَّفَ الحكم إلى السجن المؤبّد، لأنَّها تعتبره عدوها الأوَّل ومُهدِّد «أمنها القومي».
أتابع القراءةَ وأطلبُ كأسَ شاي أخرى. أستمتعُ بقراءتي، لأنَّها تشكِّل هذه المرة تهديدا صريحا لي؛ قراءةٌ مغامرةٌ. أتحمَّس في القراءة وأتفقُ مع بعض النقاط التي يصرُّ عليها أوجلان، تحديدا تلك التي تدعو إلى التعايش الديمقراطيّ العابر للدولة القوميَّة، وتضحكني بعضُ أفكاره اليساريّة – الكلاسيكيَّة الصلبة المؤدلجة، التي كما يبدو، لم يجهد أوجلان ليتغلَّب عليها، أو يعدِّلها.
يُشغلُ النادلُ أغنياتٍ تركيَّة تراثيَّة، تلك التي تشبه أغنيات «زكي مورن»، لكنَّها أكثر «رجوليَّة»؛ يجلس مسنٌ تركي قبالتي، على رأسه قبعةُ الأتراكِ، يمسح بمنديل أصفر عرقَ جبينه ويطلب عرَقا تركيّا «الراكي».
كلُّ ذَلِكَ ساهم في تكوين بيئة ملائمة لقراءة كتاب يعاينُ القضيَّة «الوطنيّة» التركيّة ومشكلاتها من وجهة نظر رجل يمثّلُ جزءا محوريا من وجودها وقطبا لازما في حلها. أوجلان يدعو، بعلانية، في كتابِه «خريطة الطريق» ترجمة زاخو شيار، إلى التخلُّصِ من مفهوم الأمة القوميَّة الواحدة والانتقال إلى مفهوم «الأمة الديمقراطية»؛ أي الأمة مختلفة اللغات والأعراق والأديان حسب تعريفه لها. وهذا ما أشعرُ بضرورتِه صراحة وازددتُ حماسا بعد أن ولجتُ مقهى «عرفان»؛ فكلُّ شيءٍ حولي أحاديُّ النزعة: العلم الأحمرُ يتوسّطه هلالٌ أبيض ونجمة بيضاء في الزاويةِ، صورة الزعيم الواحد المقدَّس على الحائطِ، أغنياتٌ بلغة واحدة لا شريك لها، مشروباتٌ كلَّها مستوردة من بلدٍ واحد لا بديل له، وزبائن في غالبيتهم الساحقة من «عرق واحد».
مرَّ بعضُ الوقتِ وأخذَ المساء يسدلُ، رويدا رويدا، ستارته على النَّهار الصيفي؛ هبَّ نسيمٌ عليلٌ باعثا رائحة طيِّبة في الأنحاءِ. دَخَلَ المقهى شابٌ في أواسط العشرينيات، حاملا نسخا من صحيفة «آيدنليك» ذات الميول القوميَّة- الكماليَّة، وراح يوزِّعها على الجالسين ويحصل على بعض النقود من كلِّ أحد. اقتربَ منّي، تحدَّث بتركيَّة ليِّنةٍ وضحكَ، فخلته ألقى نكتة، ضحكتُ بحشمةٍ وأجبته بالألمانيَّة موضِّحا جهلي باللغة التركيَّة، فتبسَّم بلطافةٍ ومضى.
أُكملُ القراءةَ، وتسلّيني ملاحظةُ أوجلان القائلة: «وتصيرُ الثورةِ إرهابا هو خاصيةٌ من خصائص النزعة الراديكاليَّة للطبقة الوسطى. فأحيانا ترى الحاجةَ إلى أن تكون قاسية ومُجحفة للغاية في سَبِيلِ الوصول إلى السلطة. ولهذا السبب عينه أيضا، تنزلقُ بسرعةٍ نحو النزعة السلبيّة، بمجرَّد زوال فرصة بلوغِ السلطة». أفكِّرُ في البيئةِ التي نضجَ فيها هذا الرجلُ اليساريّ الراديكالي، في القرية البدائية، في عائلتِه المتديّنة. في الحقيقةِ لم أكن قد خططتُ لقراءة أوجلان، لكنّ مروري بجانب هذا المقهى ذي الطراز الشرقي التقليدي والطاولات البلاستيكية المغطاة بأقمشة تسهّل عمليَّة إلقاء وحمل أوراق اللعب، أجّج في داخلي حنينا وهّاجا إلى البيئة التي ترعرعت فيها ودفعني دفعا للدخولِ، وحين دخلتُ وجدتُني محاطا دفعة واحدة بشتّى رموز الكماليَّة والقومويّة التركيَّة، بلغتِها وألوانِها وموسيقاها ومشاريبها. تفاجأتُ في البدءِ وتردَّدت بعض الشيء، لكن موجة الحنين إضافة إلى فضول مهول استولى عليَّ منعاني من أيِّ تراجع. وبحكم أصلي الكرديِّ خطرت لي، على الفور، سلسلة من الأفكار والحكايات المرتبطةِ بالظلم الذي مُورَس بحقِّ الأكراد على يد الفاشيّة القوموية التركية، وتملّكني في تلك الوهلة إحساسٌ بضرورةِ فهمٍ أعمق للصراع التركيّ- الكرديّ. ولم يخطر لي شيءٌ أنسب من البدء بالنقيضِ المباشر للكماليّة المتزمّتة؛ أي بكتبِ وأطروحات أوجلان السجين (المتزمِّتُ بدوره، خصوصا في البدايات).
أستلذُّ بتناول الشاي المصنوع جيدا وأمضي في القراءة بحميَّة من ينقِّبُ عما يفتقد، فيلفت نظري انتقاد أوجلان اللاذع للبلاشفة، إذ يشبِّه البلشفيَّة بالنازيَّة الألمانيَّة والفاشيَّة الإيطاليَّة، لجهةِ أنَّها جميعا في النهاية ذات أصول «يعقوبيَّة». يعجبني هذا الانتقاد العلنيّ، الذي لم أتوقّعه في الحقيقةِ. كما يربطُ أوجلان بين اللاديمقراطية والدولتيّة القومية. وهذا حسنٌ أيضا. بيد أنه يبالغ بصورة هستيريَّة في استعماله لمفردة «الديمقراطيَّة» ونبذه المطلق للحداثة الغربيَّة؛ يبدو لي أن هذه عقدتُه، لأنَّه، في الحقيقة، ساهم بشكل شخصي في تأسيس حركةٍ تحررية قومويّة مسلحة غير ديمقراطيّة، كردة فعل على الاضطهاد؛ ويبدو أنَّه يحاول، بعد سنوات العزلة والتأمل، أن يخفي هذا «العيبَ التاريخيّ»، أي «لاديمقراطيَّته». على كلّ حال، يُعجبني أنَّه لم يبق جامدا، لأنَّه مُبشِّرٌ أن يتغيَّر ويتطوَّر المرءُ فكرا ورغباتٍ، بل ذلك ضروريٌ وأساسيٌّ في صيرورةِ الكائن البشري.
أطلبُ كأسا ثالثة، مع كثيرٍ من السُّكَر هذه المرَّة. أحدِّقُ في عينَي مصطفى كمال اللابس بذلة عصريّة وربطة عنق لا أتبيّن تفاصيلِها، بسببِ غيابِ اللونِ في الصورةِ. الألوان كانت ستخفِّفُ بلا أدنى شكّ من كاريزماتيّة مصطفى كمال، كانت ستغرقُه في العاديَّة البشريَّة؛ لذا فغيابُها أساسيٌ في هذه الصورةِ. بيد أنني أخالها ربطةَ عنق سوداء، أو خمرية بلون الدَّم المتخثِّر. قميصه أبيض، في الغالبِ، ذلك الأبيض الصرفُ النقيُّ كما يَشَاءُ المحافظون محبو النقاءِ والطهارة.
ومصادفة يقعُ بصري على «بوستر» ضخم بجانبِي لم ألمحه في البدءِ:
صورة طولية لمصطفى كمال مرتديا بذلة سوداء وعند قدمِه اليسرى، بلون أبيض، سنةُ ميلادِه 1881 وبدلَ تاريخ وفاته رمزُ اللانهايَّةِ (الإنفينيتي).
أضحكُ بخفوتٍ. وأردّد في نفسي: إنَّها عقدة الأبديَّة مرَّة أخرى.
يتبرَّكُ رواد المقهى بهذا الرجل الذي لا ينتهي في مخيِّلتهم؛ يجلسون بين صوره الكثيرة وعباراته المعلقة على الجدران، فيحسُّون بعظمة العِرق الذي ينتمون إليه بحكم الطبيعة التي «اصطفتهم» دون غيرهم، ليكونوا من سلالة رجلٍ فذٍّ لا ينتهي.
لا أعرفُ، في الحقيقة، إن كان مصطفى كمال تركيَّا بنسبه، لكنه بالتأكيد ليس تركيَّا «صافيَّا»، لأن المنطق يرفض هذه الفكرة؛ فكرة صفاء الأعراق. ومن المفارقاتِ الطريفة المكرَّرة في تاريخ الحركاتِ القوميَّة المتطرِّفة هو الأصلُ العرقيُّ المختلفُ تماما/الغريبُ لمؤسِّسيها والمساهمين الحيويين في ازدهارِها. وهذا ما نجده مثلا لدى مؤسِّسي حركة «الاتحاد والترقي» التي أسَّسها شبانٌ من أصول غير تركيَّة، وينطبقُ الأمرُ إلى حد ما على أوجلان نفسِه، المولود لأمٍ تركيَّةٍ.
أعاودُ القراءةَ؛ في المقطِّع المسمَّى «ظهور قضية الديمقراطية في تركيا، تطورها ونتائجها» يخفِّفُ أوجلان من ذنبِ «أتاتورك» في الإقصاء الذي لحق بالكرد لدى نشوء الجمهوريةِ، ويحيل ذلك إلى أسباب داخلية وخارجيّة (لا سيما بريطانية)، ويكتفي بالقول: «فقد لعبَ مصطفى كمال دوره التاريخيَّ كفاية في إعاقةِ الاحتلالِ، وفي الإعلانِ عن الجمهوريَّة. لكنه عجزَ عن صونِ التحالف الديمقراطيِّ للجمهوريَّةِ، وعن سدِّ الطريقِ أمام فسخهِ وحلِّهِ». ويضيف: «كما أن مصطفى كمال بذات نفسه كان يتحدَّث في تصريحاته التي أدلى بها في مطلع عام 1924 عن مشاريع الحل التي كانت تعني في ما تعنيه نوعا من شبه الاستقلال الديمقراطي لأجل الكرد». بعد ذلك يستفيضُ أوجلان في التحدث عن التآمر البريطاني الذي أدى إلى الإطاحة بممثلي الأكراد من المعادلة السياسية آنذاك، ويستبعدُ احتمالية أن يكون مصطفى كمال قد اتّخذَ عن عمدٍ قرارا بالتطهير الإثني؛ بل كان خاضعا لإرادة الإنكليز اللازمة وقتذاك من أجل إحياء الجمهوريّة.
حسنا، فلمَ لا أنهضُ الآن وأبيِّن ذلك للجالسين؟ لمَ لا أقول لهم إنني أقرأ في كتاب لعبد الله أوجلان، وأترجمُ لهم ما ذكره بخصوص مصطفى كمال؟ ولمَ لا أذكر لهم، بوضوحٍ، أن أوجلان لم يعد يريد دولة قومية للأكرادِ، بل يريد دولة «ديمقراطيّة» تشاركية.
هذه تساؤلات دفعتَها المثاليّةُ البشريّة إلى عقلي، فالمنطقُ يدركُ أنَّني سأرشَقُ بكلِّ الكؤوس الموضوعة على الطاولاتِ بمجرَّد أن أخبرهم عن قرائتي لأوجلان في مقهاهم الذي لا يرتاده سوى أنصار الكماليَّة الراديكاليَّة، الذين يَرَوْن نهايةَ العالم بنهاية الأتاتوركيَّة، ونهوضَه بنهوضِها.
ومن جهة أخرى، ماذا لو عَلِمَ المتزمِّتون الأوجلانيون أنني جالسٌ في مقهى المتزمّتين الكماليين وأشربُ كأسَ شاي تلو الأخرى؟ أسيجدي نفعا إخبارُهم أنني قرأتُ لأوجلان بينما كنت أتناول شايَهم؟ هل ستُغيِّر شيئا معرفتُهم بما كتبه أوجلان في سنة 2009 عن مصطفى كمال ودورِه التأسيسي للجمهورية وموقفه «المعتدل» من الأكراد آنئذ.. كلا، بل سأصبحُ، على وجه السُّرعة، خائنا للدَّم الكرديِّ المُراق على جبال كردستان، وسينعتني بسطاءُ الأوجلانيين بـ«الأردوغانيَّة»، إذ أن معظمهم يجهلون التاريخ وتحولاته، مؤدلجون، يكتفون بالتلقّي والتنفيذ دونما اعتراض، تماما مثلما يفعل المتديِّنون البسطاء، الذين لا يشغلون عقلهم بمسائل الوجود والعدم.
أردِّدُ في نفسي متأمِّلا الجالسين: كراهيةُ الشُّعوب لبعضِها بعضا مصنوعةٌ في غرفِ الساسةِ والتّجار ورجالِ الدين، وليس لها أيَّ وجودٍ في غيابِ هذه الصناعةِ؛ صناعة الكراهيةِ.
أعجبتني التفاتة أوجلان الفكريَّة هذه، وانفتاحِه على الآخر ورؤيته شريكا تاريخيَّا لا غنى عنه؛ فيبيِّنُ في معرضِ ذكرهِ للعلاقاتِ الصلبةِ بين أسلاف الأتراك والأكراد كيف أن هذين الشعبين كانا، رغم بعض التناقضات بينهما، عاشا مصيرا مشتركا نتيجة لكينونة علاقاتِهما الاستراتيجيّة على مدار عصور مختلفة؛ إذن، الرجلُ يتقرَّب من الآخر، الذي لم يزل يراه عدوَّا مطلقا. وهذه بداية سليمةٌ في معتقدي؛ إذ أن أيّ حلٍّ ممكنٍ لهذا الصراع لا بدّ أن يمرَّ بنزعِ فتيلِ الكراهيَّة العمياء المتبادلةِ، وباللجوء إلى الشفافيَّة والصدقِ، وإظهار الحقائق للناس العاديين وإطفاء حرائق الأيديولوجيا، ليتمكّنوا من رؤية البشريِّ في «الآخر». الكراهية الشعبية بين الأكراد والأتراك تتآكلُ، آن تُنزَع القدسيَّة عن الكماليَّة السافرة وراهنا عن الأردوغانيَّة المنقَّبة، وحين تُنزَعُ الألوهية عن صورةِ عبدالله أوجلان ورفاقه ويُرَوا بشرا يخطئون ويصيبون.
يتوافدُ مع مرور الوقتِ شبَّانٌ أتراك إلى المقهى بعد أن غابت الشمسُ تماما وانتهى نهارُ العملِ. يمتلئ المقهى عن بكرة أبيهِ، وتعلو الأصوات المُرحِّبةُ المتحمِّسة لمساءٍ من المرحِ ولعب الورق أو من النقاشِ مع كأس راكي. عمَّ الصمتُ حين بدأت نشرةُ الأخبار على محطّة CNN türk. خرجَ أردوغان على الشاشة يلقي كلماتٍ في مناسبةٍ رسميَّة لم أعرفْها، لكنَّه كان يتحدَّث عن العملةِ التركيَّة بحنقٍ، فاحمرّت وجوهُ المُتابعين، وراح بعضهم يصرخُ بأسى، وردَّ عليهم آخرون بالحدَّة ذاتها ودارَ نقاشٌ شديد النبرةِ، تفوحُ منه رائحة الأرغيلةِ والراكي، تحت أنظارِ مصطفى كمال «اللانهائيِّ».
كاتب سوري يقيم في ألمانيا

قد يعجبك ايضا